الاثنين، 29 مارس 2010

GERARD LECLERC ANTHROPOLOGIE ET COLONIALISME 1972

GERARD LECLERC ANTHROPOLOGIE

ET COLONIALISME

1972

الباحث / عمرو بن معد يكرب حسين الهمداني


القسم الثاني

الانتربُولوجيا الكلاسيكية

أمام الحقيقة الاستعمارية

المدرسة الوظيفية هي التي سيطرت على الانتربولوجيا في بداية القرن العشرين، ولأجل تمييزها عن التطورية وعن التفكير الفيكتوري إذ خلافاً للحقبة الفيكتورية، نجد تقسيماً جديداً للعمل موزعاً بين المنظر في غرفته والذي لا يرتاح إلا لأحداث التاريخ الكبرى، وبين الباحث الميداني، فبينما كان العالم سابقاً هو المنظر العامل في المكتبة، لم يكن العامل في الحقل أكثر من حامل معلومات، يكفي أن نفكر بدور كهايم المنظر، بعد سبنسر وجلن أو ليفي شتراوس منظراً بعد جينود.

أما من الآن فصاعداً فالانتروبولوجي هو الذي يعمل في حقله، وهو الذي يؤلف الصورة الخاصة، مستعملاً لذلك عدة مفهوميه خاصة به، فالباحث والمنظر هما شخص واحد.

فارق رئيسي آخر حين يتماهى الباحث والمنظر إبان الحقبة الفكتورية مع مجتمعه وثقافته ومع "المدنية" وممارستها الاستعمارية التي لا يلقي عليها أية نظرة نقدية، نجد نوعاً جديداً من الانتربولوجيا المعاصرة قوامها القطعية الواعية أو الفجائية إلى حد ما القطعية مع الاستعمار والقيم والممارسات التي يفترضها.

يعتبر مالينوفسكي، بالنسبة لتاريخ هذه المادة من أوائل الذين حددوا الشروط الجديدة للأنتربولوجيا بالمعنى المعاصر للكلمة، إنه أول الباحثين الميدانين (1906-1920) إذ لم يعتبرها الانتربولوجيا لقد اعتبرها شكلاً مميزاً من أشكال الثقافة الغربية، خاصة حين تتصدى نظرياً للثقافات الأخرى.

وفي الوقت الذي بدأ الغرب أزمة دفعته لأول مرة إلى الشك بذاته، نجد مالينوفسكي المبعد والمنتزع من "المدينة" يرسي أسس طريقة جديدة في دارسة المجتمعات التي أطلق عليها اسم المجتمعات البدائية.

بعد أن فضح مالينوفسكي في مقال له (أفريقيا، 1930) الصفة غير الإنسانية و"المجزوءة" للتقدم التقني الذي يحول الإنسان إلى آلة، أضاف: (يمكن أن يكون في ذلك نظرة متشائمة للتقدم، ومع ذلك فأكثرنا يستشعرها بقوة، ويرى في الدفع دونما هدف للمكننة الحديثة تهديداً لكل القيم الروحية والفنية الحقة).

بالنسبة للفترة الفيكتورية، لم تكن الأنتربولوجيا أكثر من دراسة الأشكال الاجتماعية البدائية غير المتمدنة، بهدف إيجاد الطريقة التي ستتكيف بها هذه المجتمعات مع العالم الحديث. أما بالنسبة لمالينوفسكي فالأمر أبعد من ذلك إنه ثمرة لقاء الثقافة الغربية مع ثقافات أخرى.

إن الانتربولوجيا القديمة، باعتبارها، ثمرة عمل الباحث الميداني والمنظر في غرفته لم تعد مقبولة ولا أصيلة، فهي تعري الفروقات عن طبيعتها حين تضعها في إطارها، فتصفها بالغرابة وتُدخلها مفاهيم كلية شاملة (الطبيعية- الحيوانية- العقلية ما قبل المنطقيه.. الخ).

ماذا نقول في علاقة الانتربولوجيا بمختلف الأنماط الإنسانية التي يواجهها أثناء إقامته؟ الواقع أنه ليس وحده الحاضر بين الشعوب الأصلية، فهناك المستوطنون، والمبشر، وممثل النظام صحيح أن عددهم قليل( ومالينوفسكي حكى عن تجربته مع ملينزيا) ومع ذلك فهم يزعمون أنهم يفهمون السكان الأصليين وما يتعلق بقدراتهم.

إن الانتربولوجي ملزم بمقاربتهم، إلا أنه لا يرغب فالمعرفة الحقة هدفه.

صحيح أنه ممكن فهم حقيقة أن موقف البيض تمليه دوافع عملية لا نظرية، لأن تقديرهم محكوم بالمصلحة (التجارة، السيطرة التنصير والرد) ولكن على الانتربولوجي الذي يريد أن يكون صورة أمينة عن مجتمع السكان الأصليين أن يعيش بعيداً عن سائر البيض، وفي قلب موطن السكان الأصليين وبقطعه كامل الصلات مع الأوروبيين يستطيع أن نستنتج من ذلك أن الانتربولوجي إنما ينقطع عن البيض لأسباب منهجية، تختلف كلياً عن الأسباب الرومنطيقية التي تحدث عنها مالينوفسكي.

تشكل العشرينات من هذا القرن فاصلاً حاسماً في تاريخ الانتربولوجيا الحديثة فالممارسة الميدانية هي التعبير عن تغير جذري لمعنى الممارسة والخطاب الانتربولوجي.

لقد زعزعت المدرسة الانتشارية- إلى جانب الاهتمام الوصفي الذي قام به بواس- إن لم يكن- إشكالية المدرسة التطورية، فعلى الأقل طريقتها لقد تركت على الأقل الفهم الخطي للتاريخ ومن جهة ثانية جعلت نظرية التاريخ لاحقة لتحليل التواريخ الجزئية لكل مجتمع باعتباره كلاُ مستقلاً.

يمكننا القول إن جل الانتربولوجيا الثقافية كامن في هذا النص: مفهوم الثقافة، التحليل الوصفي المحيط المادي، التفسير النفسي، الشك بالتاريخ. لقد أهتم بواس هنا بالتساؤل عن المنهجية التي تتحكم بالعمل الانتربولوجي التقليدي ومع ذلك فثمة نقد مباشر للمفاهيم الفكتورية خاصة لمفهوم الطبقات، الشرائح. ففي كتاب لوفي(المجتمع البدائي) نجد رفضاً كاملاً لمفاهيم مورغان الأساسية.

إن هدم نظرية الانتقال من البسيط إلى المركب في كل مجال، من الأسفل إلى الأعلى، على مستوى المجتمعات الإنسانية، يعني في الوقت ذاته هدم أسس (التعالي) الغربي.

إن رفض فكرة التقدم من قبل المؤلفين السابقين ومن لوفي إنما يستند على عدم اعتبار المستوى التقني الاقتصادي، أو البيئة التحتية إذا أردنا القول، المعيار الوحيد لقياس تقدم المجتمع تفقد "المدنية" مضمونها الشامل القائم على التعالي إنه التعالي التقني وحسب، إنها السيطرة المنظمة على الفطرة.

المشروع التحليلي الجديد وحقل الأنتربولوجيا

لقد تعرفنا على موقف مالينوفسكي باعتباره منظراً وعالماً ميدانياً أكثر صلابة منه عالم معرفة فقط لنر الآن كيف سيحدد راد كليف براون هذا العلم الجديد انطلاقا من العمل الميداني ومن أطروحات مدرسة دركهايم السوسيولوجية.

لنبحث الآن في النقطة الأولى: عدم شرعية إعادة البناءات التطورية خلافاً لـ "لوفي" أو "هركوفيتز" لم يقدم كل من مالينوفسكي أو راد كليف- براون نقداً متكاملاً للمدرسة التطورية وفي المرحلة الأخيرة من مراحل تأليفه نجد أن فكرة التطورية "بمعنى ما" تظل صالحة باعتبارها صورة موجهة.

أما نظريات كل من مين، وسبنسر، وليبوك، وتيلور، ومورغان، فلم تكن من قبيل ما وصفناه إذ إنهم قد وضعوا مقولاتهم غير الصحية غالب الأحيان على ضوء أبحاث معاصرة.

صحيح أن الفيكتوريين لا يجهلون النقص الحاصل في معلوماتهم، لذلك يعتقدون بإمكانية تعويض هذا النقص بالتفاف نظري إنهم يعتقدون بإمكانية إعادة تركيب الأصول وتعويض التفاصيل الناقصة بفهم حدسي لمعنى المؤسسات البدائية وإعادة البناء التطوري غالباً ما استندت إن الانتربولوجيا نظرية وممارسة مستقلة عن التاريخ والحقيقة البدائية وحدها هي التي تهم العالم والعمل الميداني كفيل بأن يمده بكل ما يريد معرفته مالينوفسكي إنه بداية الانتربولوجيا بالمعنى المعاصر للكلمة. والحق يقال، إننا نستطيع الآن فقط الكلام عن "الأمركة"، أي كمجموع مفهومي وعملي مميز.

إستقلالية غرض الأنتربولوجيا

وحدها الحقيقة البدائية الموجودة والمعاصرة هي الغرض الأصيل للنظرية ولفهم هذا الحقل يجب أن نميز على ما يبدو بين عبارات راد كليف-براون غير المتحررة تماماً من الإشكالية السالفة والموقع الفعلي الذي يحتله علماء الانتربولوجيا المعاصرون.

اضطر راد كليف في محاولته إعطاء الانتربولوجيا الجديدة نقاء ومنهجية أن يذوب هذا العلم في النظرية العامة المتعلقة بالمجتمعات، ومع أن هذا الموقف ظل سائداً بعد راد كليف- براون، إلا أنه سقط من حقل الانتربولوجيا الفعلي.

ما هي أسس استقلالية و"كفاية" الانتربولوجيا الوظيفية؟

يعتبر راد كليف- براون المجتمعات أنظمة طبيعية، كما يعتبر أن المجتمعات البدائية هي بدورها أيضاُ طبيعية، ولكنها بسيطة.

فالمجتمعات ليست حقيقة تاريخية وحسب بل حقيقة طبيعية نظام علاقات لا يتغير نسبياً وهكذا يستمر نظام القبيلة الاقتصادي والسياسي ونظام القرابة فيها، مهما تحول الأفراد، بل حتى لو زالوا، ومهما حدث من تغيرات.

فالواضح أن النظرة الوظيفية للمجتمعات البدائية ليست نظرة إلى مجتمعات منبثقة من أصول التاريخ، رغماً بل هي أنظمة طبيعية معاصرة بمعنيين اثنين إنها معاصرة للمجتمعات الغربية ومؤسسات المجتمع البدائي، ومعاصرة لذاتها (أو تنتمي للعصر نفسه) لا تعتقد المدرسة الوظيفية بوجود "مخلفات حية" كما يعتقد التطوريون بالمعنى السلبي للكلمة.فلا وجود للمخلفات برأي مالينوفيسكي لاعتقاده أن بقائها "إنما يبدو لاكتسابها معنى جديدا ووظيفة جديدة" كل مؤسسة تستمر هي "وظيفة" في قلب الثقافة وفي قلب المجتمع الحالي .

إن التحليلات الكبرى هي وحدة الخطاب الوظيفي، وهذا ما لم يمثل بالنسبة للفيكتوريين سوى لحظة معرفة من لحظات التحليل الكلي.

التحليل الوظيفي والأيديولوجية الاستعمارية:

يطالعنا نشوء نمط جديد في التحليل الانتربولوجي تطالعنا نشأة علم جديد "الانتربولوجيا الاجتماعية" بنتيجتين هامتين: الأولى سلبية وهي هدم الأيديولوجية الفيكتورية (على الأقل ظاهرياً أو افتراضياً) والثانية ظهور طريقة تقريب جديدة للمجتمعات البدائية وذلك عن طريق الظاهرة الاستعمارية.

من الواضح أن رفض الأيديولوجية الفيكتورية لا يعني بالضرورة رفض الإمبريالية الفيكتورية وعلى كل لم يكن هذا مجال الجدل التطوري- الوظيفي.

لقد رفض مالينوفسكي، وكذلك راد كليف-براون، تاريخ مورغان وتيلور الحدسي، لا يسبب نتائجه العملية (تبرير الاستعمار) بل يسبب عدم كفاياته النظرية (عدم شرعية أو نفعية البناء) لقد رفضت التطورية لا كأيديولوجية، بل لعدم كفايتها ولعدم منفعتها (آنذاك) في الحقل العملي.

كيف يمكننا حينئذ أن نقوم علاقة الوظيفية بالتطورية باعتبارها أيديولوجية استعمارية.

تجري الأمور بالنسبة للمدرسة الوظيفية كما لو كان رفض التطورية خارج حقل الانتربولوجيا الشرعي لا يعني بالضرورة رفض الأيديولوجية الإمبريالية.

لذلك لا تعتبر علاقة الوظيفية بالاستعمار على هذا المستوى سلبية، ولسببين: أولاً لم تر العلاقات المباشرة بين التطورية وبين الاستعمار. وثانياً: لأنها تنفي الزعم العلمي الفيكتوري على أيه حال، لهذين السببين معاً خرج الاستعمار من حقل الانتربولوجيا.

الاستعمار باعتباره تثاقفاً

لقد ساد الاعتقاد لدى عدد كبير من الانتربولوجين، وبخاصة لدى بواس ومالينوفسكي، بأن المجتمعات البدائية قد ظلت كاملة (عذراء) لا إزاء التاريخ وحسب، بل إزاء التصنيع غير الهادف وغير الأصيل، وإزاء استعمار موحد بقيام مسح مفتوح، أساسه اختيار عينة عملية ومؤسسات إنسانية تسمح بتفهم ما هو مختلف.

فبعد أن أعلن أنه قد أندفع لدراسة الانتربولوجيا بتأثير "قرفة" من المدنية وصفتها غير الإنسانية، يعترف مالينوفسكي أن الهرب أمام المدنية محكوم عليه بالفشل.

إذا كانت هذه الصعوبات في المحيط عام 1920م فماذا عساها تكون الصعوبات في أفريقيا عام 1930م إن المستوطنين هنا يعدون بالملايين، وقد حولوا الأراضي لحسابهم والصناعات قد أدخلت نظام الأجور، والإدارة الاستعمارية قد تبنت مستخدمين من السكان الاصليين فلم يعد للانتربولوجي من موارد إلا الالتجاء إلى أسفه، إلى الحقيقة الواقعية وحدها، الحقيقة الاستعمارية أو كما قيل في حينها.

أما مالينوفسكس، فبعد وقفة تأيينية قصيرة على قبر الانتربولوجيا "القديمة" سرعان ما عاد لدارسة سيرورة "التغير" فكان كتابة المطبوع بعد وفاته عام 1945م ثمرة هذا الانقلاب الذي تحقق أثناء إقامته في الثلاثينيات.

إن إخفاق مالينوفسكي في حبة للحياة البدائية التي لم تصب بعدوى المدنية، لـ "الأجداد المعاصرين"، ولد حالة كآبة يملؤها شعور بالأسف والذنب، ستواجه أيضاً المستعمر والعلم، إذ لم يعد للمجتمعات البدائية من وجود إلا كجزء وسط.

الاستعمار والمفاهيم الوظيفية

تماماً كما استطاعت المجتمعات البدائية أن تظهر قدرتها على هضم الماضي من خلال إدخال المخلفات تظهر الآن إمكانية إدخال الخارج، الغريب، ضمن حاضرها تلك هي حالة مجتمعات العالم الثالث.

إن إصرار المدرسه الوظيفية على التزامن قد قادها لاعتبار الاستعمار عنصراً حقيقياً في مجتمع السكان الأصليين.وعندهم صورة الاستعمار تختلف كلياً عما كانت لدى الفيكتور.

من الملاحظ أن معظم الانتربولوجيين الذين عالجوا حقيقة الاستعمار في مرحلة ما قبل الحرب، لم يشيروا أبداُ تحت هذا الاسم فكلمة استعمار واستعماري تشير بالنسبة لهم إلى مجال خارج عن إطار العلم.

وإذا أردنا أن نعرف كيف أدركت الأنتربولوجيا في ثلاثينيات القرن العشرين حقيقة الاستعمار، لرأينا أنها تستعمل في التعبير عنه عبارات مثل "الصدمة الثقافية"، أو "الاحتكاك الثقافي"، أو "التثاقف"، أو أخيراً "التغير الاجتماعي".

فإطلاق اسم الانتشار على حقيقة الاستعمار لا يتم إذن إلا بنوع من التحريف، أو بإعطاء الكلمة معنى أوسع مما تتحمل.

أما كلمة "التثاقف" فقد ظهرت عام 1880م على أيدي الانتربولوجيين الأمريكيين، والعبارة هذه-بعيداً عن التشدق الرسمي وعن اللامبالاة اللغوية.

لقد استعمل مفهوم "احتكاك الثقافات" أو الأعراق لأول مرة في المؤتمر العالمي الأول للأعراف الذي عقد في لندن عام 1911 والذي ساهم فيه بعض الأنتربولوجيين، ومنهم بواس، ونجد في مساهمات الأعضاء المشاركين بروز مفهوم جديد يتعلق بمجتمعات ما وراء البحار، كما ظهر في الوقت نفسه لدى لوغارد وكلوزل وفيه نفي لفرضية تفوق الغرب، كما نجد "اكتشافاً" لما في تعدد الثقافات من سحر، هذا التعدد الذي يجب الآن الحفاظ عليه ما أمكن، مع ضرورة إتباع سياسة أساسها احترام مؤسسات الشعوب الأصلية.

التثاقف: المعنى المجرد والمعنى الحقيقي:

بلغ عدد الدراسات المخصصة للتثاقف بين عامي 1930-1950 حداً كبيراً، بحيث غطى هذا المفهوم جانب مفهوم التغيير الثقافي، كامل حقل الانتربولوجيا الكلاسيكية فمفهوم التثاقف يشير في الغالب إلى انتقال مؤسسات أو ممارسات أو عقائد ثقافة ما (أو مجتمع) إلى أخرى وتحت هذا المعنى يختبئ المعنى الحقيقي الذي ليس شيئاً آخر سوى الاستعمار. والدراسات المخصصة للتثاقف كلها ليست سوى دراسات لبعض مظاهر الاستعمار.

التثاقف ظاهرة عامة، هذا ما يقوله بعض الانتربولوجين الأميركيين: هرسكوفيتز لنتون، ورادفيلد ويتضمن التثاقف "تلك الظواهر التي تنشأ عن احتكاك مباشر ومتواصل لجماعة أفراد لها ثقافتها المختلفة، هذا إلى جانب التغيرات التي تلي في أنماط الثقافة الأصلية لكل من هذه الجماعات".

من الواضح، مع ذلك بالنسبة للانتربولوجيين بالذات أن محتوى دراسات التثاقف، لا تقف عند هذا الحد، فمن غير الممكن فصل الانتربولوجيا عن التاريخ، لأن دراسات التثاقف لا تُعني في الواقع إلا بدراسة الاحتكاك الثقافي الغربي بسائر الثقافات.

نستنج مما ذكروه التأكيد على أمرين اثنين: أولاً، تكرار شروط العمل الميداني: المسافة التي لا بد منها بين الانتربولوجي وبين غرضه؛ ثانياً، مفهوم خصوصية التغير الثقافي الاستعماري، ما دام بسيطاً ومراقباً، وتساعد السيطرة الاستعمارية (المراقبة)الانتربولوجي على القيام بتجربة التغير في ما يشبه المختبر، حيث العمليات أكثر سرعة وأكثر قابلية للرواية، وأكثر تضخماً ندرك إذن، ومن خلال هذه الملاحظات المنهجية، وأن بشكل غير مباشر، خصوصية التغير الاستعماري، وخصوصية موقع الانتربولوجيا.

التحول (العلمي)

من الاستعمار إلى التثاقف

لو حاولنا البحث بين العلاقة بين (التثاقف) والنظام الاستعماري، في مؤلفات الانتربولوجيين، لوجدنا أن التثاقف قد أعتبر أحياناً مظهراً محدوداً من النظام، وأحياناً كالفائض من كل جهة.

بالمعنى الأول، إن التثاقف ليس الاستعمار كله، إنه الاستعمار، ولكن فقط بالنسبة للانتربولوجي الذي يبحث في صفاء الظاهرة وعموميتها، إنه النصر الوحيد الذي يمكن الحكم بلائمته له، لا بالنسبة للمؤرخ أو لرجل الاقتصاد على سبيل المثال، من جهة أخرى لا يحلل الانتربولوجي التثاقف في حينه إلا باعتباره سيرورة شاملة، مع أنه ممارسة إدارية لها إستراتيجيتها واختيارها يخيل إليه إذن أن الاستعمار يتسع كثيراً عن حقل علمه ليشمل حقول (متخصصين) آخرين.

تحويل إيديولوجية الاستعمار إلى تثاقف

ما تكلم عنه الانتربولوجيون الكلاسيكيون لم يكن ببساطة وسهولة شيئاً آخر غير الاستعمار ولقد تطرقنا إلى الأسباب (العلمية) لهذا التحويل، في الواقع لم تكن نظرية الاحتكاك الثقافي التي سادت في أيديولوجية ما بين الحربين إلا عنصراً في مفهوم مجتمعات (السكان الأصليين) ووراء مفهوم (السكان الأصليين) يختفي مفهوم الرجل الغرض، الموروث من الإمبريالية.

صحيح أن الوظيفة لم تتبن الأيديولوجية الفيكتورية بشكل تام، إلا أنها قد ساهمت بكشف الحجاب عن ثباتها في مجالات أخرى، وذلك برفضها كل تفسير (نظري) للاستعمار؛ ونظراً لذلك يأتي الخلط دون شك من الاعتقاد بأن رفض الأيدلوجية الفيكتورية الاستعمارية يعني أيضاً رفض طبيعة الأيديولوجية الاستعمارية (طبيعتها التاريخية، وما استجد عليها، وممارستها)، وذلك من خلال البحث عن صفاء مزيف أثناء التحليل.

الانتربولوجيا التطبيقية

رأينا كيف أمكن ربط مفهوم التثاقف، كما استعملته الانتربولوجيا الكلاسيكية، بالحقيقة الاستعمارية وبمحاولة المدرسة الوظيفية لجعله مفهوماً مقبولاً، والانتربولوجيا التطبيقية قد تولدت من رغبة المدرسة الوظيفية في تطبيق علمها على السياسة الإدارية، فليس لدراسة الاحتكاك الثقافي أو للتثاقف نتائج نظرية أو (أكاديمية) كما يقال في إنكلترا بل له قيمة عملية مباشرة بالنسبة للإداري.

وفي الواقع لا يختلف بناء مقولات الانتربولوجيا التطبيقية كلياً عما هو في الانتربولوجيا الأكاديمية التي تركز على مفهوم التثاقف المجرد والعام، والتحليل لا يتناول موضوعات نظرية (التاريخ) بل هو تحليل عيني يستعمل مفاهيم إجرائية (التاريخ ما قبل الاستعماري، أي مباشرة تاريخ ما قبل الحقبة الاستعمارية، التاريخ الاستعماري...الخ) متابعة منه للمشروع التحليلي.

إذا تناولت المدرسة الوظيفية الحقيقة الاستعمارية كممارسة، أو بما لها من مجال عملي، فقد ظلت مع ذلك بالنسبة للانتربولوجيين أمراً آخر، فقد ظلت معرفة تفرض حتى على الجاهل أخذها بعين الاعتبار.

حلت المعرفة الواعية لمسؤولياتها التطبيقية، بواسطة الانتربولوجيا التطبيقية، بحدود الأعوام 1930-1940 محل برغماتية انتربولوجي النظام غير الواعي للنواحي النظرية، إذ تم تنظيم البحث، بحيث تتولى الأجهزة الرسمية أو شبه الرسمية عملية الربط بين النظرية والأبحاث التطبيقية.

يعتبر المعهد الأفريقي العالمي الذي أسس عام 1926 من أنشط الأجهزة وأكثرها أهمية من بين الأجهزة العالمية.

وفي أميركا أيضاً بدأت مرحلة جديدة، تتميز بالوعي في بعض الأوساط، بأن المشكلة الهندية ومسألة السود لم تحل بالهجمة نحو الغرب، ولا مع انتهاء الحرب الأهلية.

الانتربولوجيا والإداري

لقد مر معنا كيف انقطعت الانتربولوجيا الجديدة عن التماهي كلياً مع التمدن ومع ممثليه بالتالي لقد فرضت الممارسة الميدانية الجديدة قطيعة مع الرأي، مع أحكام الجهال المسبقة لكن ثمة فئة خاصة من الجهال على الانتربولوجي أن يقيم علاقة معها، خاصة إذا كان أنتربولوجياً تطبيقياً إنهم الإداريون.

يزعم الانتربولوجي، بما له من علم ومعرفة، أنه في المواقع المناسب الذي يتيح له فهم الشعوب الأصلية، وإتخاذ الموقف اللازم تجاهها، صحيح أن بإمكان السياسي أن يكون انتربولوجي، وهذا ما حصل بالفعل أحياناً، ولكن أن الانتربولوجيا قد حصلت على استقلاليتها لذا على السياسي ترك وظائفه القديمة لهذا السبب ينزع الإداريون الانتربولوجيا إلى الاختفاء لحساب الانتربولوجيين التطبيقيين.

افترضت سياسة لوغارد ومن خلفه توظيف أصحاب الاختصاص في الدراسات الإثنية، إلا أن ملاكهم لم يتميز إطلاقاً عن وضع زملائهم وبعد فتنة شعوب الإيبو، في نيجيريا عام 1930م عرفت الدراسات تطوراً ملحوظاً.

يرفض الانتربولوجي أن يمزج علمه بالسياسة التي يتوجب عليها اختيارات لا تخضع للعقل، بل للإدارة، فيضطلع عندها، مثل راد كليف- براون.

ففي عام 1946م طالب إيفانز- بريتشارد بصفة خبير مساو لبقية أفراد الإدارة: من المستحيل أن يعمل الأنتبربولوجي بصفته خبيراً أو مستشاراً في إدارة، وان كان فيها فراداً أو معزولاً، فهو لا يستطيع إسداء النصح فيما يتعلق بطبيعة البرامج الفضائية والتربوية والاقتصادية أو الاجتماعية، قبل أن يتعرف على الجهاز البيروقراطي من الداخل.

إذا كان إيفانز- ريتشارد قد قابل الانتربولوجيا بالإدارة، باعتبارهما لغتين منفصلتين، فإنه لا يرى وجوب أن تعقب إحداهما الأخرى، فإذا طالب أن يطلع الانتربولوجي على الوثائق فمن أجل تكوين ملف يحوي مبدئياً مظاهر المسألة كلها.

ذهب "نادل" إلى أبعد مما ذهب إليه كالبنوفسكي أو إيفانز-بريتشارد قائلاً: حين يصبح العالم الاجتماعي قابلاً للتطبيق فعلى الانتربولوجي وحده أن يطبقه ، وأن لا يطبقه بصفته تقنياً يستعمل الغايات التي توصل إليها آخرون، بل أن ينسب لنفسه الحق في الحكم على شرعية هذه الغايات عليه أن يأمر أن ينصح، وأن ينتقد، وأن يتدخل في ما للسياسة من حقوق وما تقع فيه من أخطاء.

الانتربولوجيا الإدارية والاستعمار

إذا صح وجود خلاف بين الانتربولوجي والإداري فيما يخص السياسة الإدارية فلا وجود لاتفاق ضمني حول الطبيعة الاستعمارية "الإدارية" الصرفة، فالانتربولوجيون الكلاسيكيون أو سواهم من أفراد القوة الاستعمارية لا يرون في هذه المسألة مسألة سياسية وتاريخية.

ملاحظة حول الأنتربولوجيا والإدارة الإستعمارية الفرنسية

إن السيرورة التي تم وصفها آنفاً فيما يتعلق بالمجال الإنكليزي يمكن تردادها على ما تم في فرنسا، مع بعض الاختلاف فالانتربولوجي الفرنسي كان يسعى للحصول على الانتماء لإدارته، فيما استطاع زميلع الإنكليزي-إلى حد ما- أن يصبح عضواً في الإدارة الاستعمارية إن الفجوة القائمة بين العلم والسياسة التي أمكن تحسسها في إنكلترا، صارت في فرنسا أكثر عمقاً وذلك يعود لعدم وجود انتربولوجيا مستقلة شبيه بالوظيفة لقد اقتصرت الانتربولوجيا الفرنسية وحتى الحرب العالمية الثانية، على وجود الإداريين والانتربولوجيين.

ولكن بغياب الانتربولوجيا التطبيقية في فرنسا سمح للانتربولوجي المستقل أن يجد لنفسه موقعاً مميزاً بالنسبة للنظام الاستعماري.

فقد أعتبر أن دوره ومسئوليته تجاهه قد انحصرت بالمسؤولية السياسية لا التقنية أو الإدارية هذا ما طالب به وحققه بشكل جيد "غريول"

الانتربولوجيا والاضطهاد غير المباشر

إن السياسة الإنكليزية المعروفة بسياسة الإدارة غير المباشرة وهذا يفيد واضح عن المفاهيم الاستعمارية البريطانية لكن هذا لا يعني أن الإمبرياليين الآخرين لم يطبقوها في مرحلة من مراحل التاريخ الاستعماري كما يمكن البرهنة أيضاً أن هذه السياسة لم تستعمل من قبل الإنكليز وحدهم بل لقد شكلت على الدوام لحظة تعبر عن ضرورة إعادة النظر بفرضيات المستعمرين التكييفية وضرورة تطويرها.

"تواطؤ" الوظيفية مع "الإدارة غير المباشره"

أشرنا أعلاه إلى الفروقات الظاهرة بين الانتروبولوجيين وأفراد الإدارة الاستعمارية، ورأينا أنها ناتجة عن رغبة الانتروبولوجيا لتصبح علماً مستقلاً وعن معارضتها للآراء المشوشة التي يُدلي بها الجاهلون أو غير المتخصصين. ولا يعني ذلك أن الانتربولوجيا قد عارضت وسائل السياسة الاستعمارية وأهدافها، بل على العكس لقد كررت مراراً تأييدها لسياسة الإدارة غير المباشرة حتى ليمكن القول بوجود تواطؤ بين الوظيفية والأيديولوجيا المرتبطة بهذه الإدارة.

هنا أيضاً يمكن التذكير بالدور الريادي الذي قام به مالينوفسكي عام 1949م بإطرائه قيام الانتربولوجيا التطبيقية على الأراضي الأفريقية. وهو بذلك إنما كان يعلن في الوقت نفسه تأييده لسياسة الإدارة غير المباشره ومبادئها العامة.

إن المدرسة الوظيفية لا تحتفظ بمشروع التمثل إلا ظاهرياً، فيما ينصب تفكيرها على الوسائل، إن التثاقف يجب أن ينتهي.

إدارة الانتربولوجيين غير المباشرة

إن منح الانتربولوجيين تأييدهم لنظام الإدارة غير المباشرة قد أدى في نهاية الأمر إلى تحويل صفات هذه السياسة فبعد أن كانت ممارسة برغماتية صارت نظاماً ونظرية وبعد أن كانت في خدمة رؤساء الإجارة صارت نظرية لهم، لالتصاقهم بالمجتمعات الأفريقية.

بعبارات أوضح أن التحليلات الانتربولوجية ليست تحليلاً مجرداً يهدف لإغناء العلم إنها تحاليل تهدف الإجابة عن مسائل عينية كالقدرة على تكييف الإدارة الرئيسية مع سياسة الاستعمار وإدارة هذا التكيف..الخ.

نقول بعد ذلك عن إدارة الانتربولوجي ين غير المباشرة أنها سياسة محايدة، غير تأملية ولا معيارية، إنها طريقة أخرى تساعد على فهم المجتمعات البدائية، إنها ليبرالية تحترم التعددية الحضارية وبالنسبة للوسي ماير، لا تتوقف هذه الإدارة على الاستعمال الانتهازي للقيادات الإدارية كما هي الحال بالنسبة للسياسة الفرنسية تجاه السكان المحليين.

الانتربولوجيا في الاستعمار أو أمامه

باعتبارها الاستعمار حقيقة موضوعية، لا نظاماً له بُعده التاريخي والأيديولوجي، أقامت الانتربولوجيا الكلاسيكية معه علاقة مزدوجة، فالواقع الاستعماري بِقدم لها حقلاً تبني وتجرب فيه مفاهيمه الخاصة وباعتبارها علماً اجتماعياً، فهي تحاول أن توضح للجاهل هذا الحقيقة بالذات.

إن التثاقف ليس فكرة محايدة في الواقع: إنه الطريقة التي تدرك به الانتربولوجيا الاستعمار، ومن ناحية ثانية، أن الانتربولوجيا التطبيقية ليست علماً خالصاً، يطبق فيما بعد على الحقيقة الاستعمارية، ما دام لها أصولها في هذه الحقيقة.

يقودنا البحث إلى خلاصة عامة: إن الانتربولوجيا الكلاسيكية، رغم نفيها، لا تستطيع اعتبار الاستعمارية كحقيقة من ضمن الحقائق الأخرى وذلك أنها قد ركزت على الفهم العقلي ولا تستطيع الوظيفية نفي كون الاستعماري مندرجاً في خلفيتها الأيديولوجية التي تمتد حول ممارستها ومفاهيمها، وخلف الواقعة التجريبية لمقولة التثاقف، والسياسة الإدارية.

محافظة أم تقدم

اتخذت الإيديولوجية الرومنطقية في العشرينات لنفسها مسافة تبعدها عن الأيديولوجية، وعن الممارسات الاستعمارية أما الآن فبتركها ما هو قديم وأكاديمي صرف وبمحاولتها البرهنة لا على عالمية التغير وحسب، بل على عدم تميز التغير الاستعماري بصفة خاصة.

أليس الإبقاء على المؤسسات التقليدية ما قبل الاستعمار دليلاً على محافظة رجعية جامدة؟

إن غموض شرح الحقيقة الاستعمارية أمر لا يشمل الانتربولوجيين وحدهم، بل السياسيين كذلك.

الإدارة الذاتية "Self Rule" والتطور

يمكن القول أن الغموض اللاحق غير المباشر كان واضحاً بالنسبة لواضع هذه السياسة فقد أصر لوغارد على ضرورة عدم اعتبارها وسيلة تساعد في الإبقاء على المؤسسات المحلية.

أراد لوغارد كما يشير عنوان كتابة بالذات بالانتداب المزدوج, أن يحقق هدفين أساسين ولكنه قد لا حظ المسائل المترتبة على الرغبة في تحقيقهما في وقت واحد.

أنتربولوجيا جديدة

لقد أصر الأنتربولوجيين والمنظرون الاستعماريون والإنكليز طوال فترة ما بين الحربين على الفوارق الأيديولوجية القائمة بين المفاهيم الفرنسية والإنكليزية والمتعلقة بالسياسة الاستعمارية وقد مر في بريطانيا على الصياغة النظرية لوسائل وأهداف سياسة الإدارة غير المباشرة يعني ذلك على أية حال أن الفواق المشار إليها كانت كبيرة في الواقع، فالقاعدة النظرية التي اتبعتها تلك السياسة سرعان ما جرى تخطيها في أوروبا بفعل التغير الحاصل في المجتمعات الأفريقية لقد برهنت الوقائع على وجود تقارب واضح في النتائج التي بلغها الاستعمار الإنكليزي والفرنسي على حد سواء.

حدود اِلإدارة غير المباشرة

إلا أن لسياسة الإدارة غير المباشرة تأثيرها على موقف الأنتربولوجيين من سياسة المحافظة والإبقاء على المؤسسات البدائية ألا نجد تناقضاً بين تأييد هذه السياسة وبين متطلبات التحديث كما تحددها الإدارة الذاتية بالطبع.

يتهدد سياسة التطور التدريجي خطر التحول إلى مذهب يقول بـ "التطور المنفصل" المعروف باسم سياسة التمييز العنصري.

إذن لم تنسجم سياسة الإدارة غير المباشرة أبداً مع متطلبات التغير والتطور، هنا أيضاً لا نجد مجالاً واسعاً للتبجح والمديح إذ أن هذه السياسة لم تحترم حتى معنى المؤسسات المحلية إنها تغير تشكيلها تعريها من طبيعتها من حيث استعمالها لأهداف وغايات غريبة.

نقد الإدارة غير ألمباشره ونقد الوظيفية

قدمت الإدارة غير المباشرة ذاتها بصفتها سياسة متنورة ليبرالية، عقلانية يمكنها أن تؤدي إلى احترام المجتمعات "المختلفة" الخاضعة لعملية التحول القاسية. أما اعتبارها الآن وسيلة محافظة (شاءت أم أبت) فقد أصبح موقعها الأيديولوجي الجديد علامة تحول في بنية الاستعمار الحقيقة.

لقد انتبه هايلي الذي لم يكن أنتربولوجياً محترفاً بل ملاحظاً واعياً للمسائل الأفريقية إلى وجود تناقض بين المبادئ العملية لهذه السياسة وبين المثل الجديدة لسياسة الإدارة المباشرة.

إلا أن تباعد الانتربولوجيين هذا قد ظل بطيئاً وجزئياً ثم أن بعض "الجهلة" من زملاء غرباء لا دراية لهم، قد جعلوا الوظيفية والإدارة غير المباشرة بل الاستعمار.

مهما يكن من أمر فالتوافق الكلي بين المفاهيم الانتربولوجية ومبادئ الإدارة غير الذاتية لم يكن حقيقياً إلا لوقت محدود واعتبار هذه السياسة سياسة مميزة لبريطانيا ما بين الحربين ليس صحيحاً تماماً.

ولكن بعد الحرب لم يعد الانتربولوجييون يقدرون الدوافع التي كانت وراء نشأة الإدارة غير المباشرة، أو وراء الرواد الأوائل الذين ساهموا بهذه المدرسة.

إن لتشكيك الوظيفية بسياسة الإدارة غير المباشرة حدوده تنتمي الوظيفية إلى النسق الأيديولوجي الذي اعتبر هذه السياسة ممكنه وضرورية لذلك يعتبر الغموض الذي لف سياسة الإدارة غير المباشرة والنظام الاستعماري عام 1930م هو نفسه الغموض الذي لحق بالوظيفية، التي كان موقعها بين الاستعمار المليء بالنوايا الحسنة والضمير الطيب.

ومع ذلك فالوظيفية ليست بالمدرسة التي ستقدم أكثر الأطروحات مناهضة للاستعمار، بل ثمة مدرسة أخرى قامت بذلك، وهي الانتربولوجيا الثقافية الأمريكية أما الوظيفية، فلأنها ارتبطت بالاستعمار لم تستطع أن تقدم لمناهضته إلا مواد تجريبية وحساسية جديدة فقد ذهبت أبعد من ذلك إذ قدم ممثولها الأطروحات المناهضة للاستعمار.


القسم الثالث

الانتربولوجيا المعاصرة

ومرحلة إزالة الاستعمار

الانتربولوجيا ومناهضة الاستعمار

لم نتناول إلى الآن سوى ما للمعرفة الأنتربولوجية من انعكاس مباشر ومحدود على الحقيقة الاستعمارية.

علينا الآن أن نبحث في تأثير المعرفة الأنتربولوجية على ما نسميه "الحساسية المعاصرة" وهي تأثيرات المعرفة لم يلاحظها الانتربولوجيون بذاتهم.

يجب أن نميز إذن بين الاستخدام المباشر للمفاهيم الأنتربولوجية الكلاسيكية، التي تضع الانتربولوجيا في قلب العملية الاستعمارية والتأثيرات الأيديولوجية الطويلة المدى خارج الفلك الإداري والعلمي.

حين نقول أن عصرنا هو عصر "مناهضة الاستعمار"إنما نشير إلى حقيقة واقعية بسيطة، مع الإصرار على مضمون هذه الكلمة إن غموضها ناتج عن سلسلتين من العناصر: عالمية، وداخلية تتعلق بمجتمعات العالم الثالث.

إلا أن سبب الغموض مرده إلى أن النظر إلى مناهضة الاستعمار باعتبارها رفضاً للسيطرة الغربية هو من عمل العناصر المحافظة في أمم العالم الثالث الجديدة.

إن وجود ماركسية كوبية أو صينية، أو وجود اشتراكية عربية أو أفريقية بما فيها من إشكالات كل ذلك يظهر وجود نزع من الانفكاك عن الاستعمار له ثقله أكثر مما للعلوم الإنسانية، علينا الآن أن نرى موقع الأنتربولوجيين المناهض للاستعمار.

الوظيفية

لقد أصبحت الدراسة الوظيفية بوصفها لا لنمط الحياة، بل لنمط وجود فعلي، تخطياً للمركزية الإثنية الفيكتورية، التي لم تر في المجتمعات الأخرى إلا أنواع حياة تخطاها التطور وتعتبر الوظيفية أن كل مجتمع باعتباره نظام مؤسسات وممارسات لها دلالتها قادر على الاستمرار في حركته وتحولاته والقيام بوظيفته رغم التغيرات الظاهرة داخلياً وخارجياً على المستوى الشخصي.

وقد عرفت الانتربولوجيا الأميركية هذه الأطروحات رغم بقائها على بعدها عن الاستعمار (الأوروبي) بعكس الانتربولوجيا التطبيقية.

المدرسة الثقافية النسبية الأميركية

من الواضح أن نزعة المقارنة في مؤلف روث بناديكت لا يمكن ردها إلى النزعة التي اقترحها راد كليف- براون.

كل مجتمع والمدرسة الأميركية تفضل استعمال عبارة ثقافة لتشديدها على القيم أكير من تشديدها على الروابط العينية.

إن شمولية معنى المؤسسات الإنسانية وتماهية في أكثر من مكان (القرابة، الاقتصاد، السياسة) قد ساعدا راد كليف-براون مالينوفسكي على إرساء نظرية المقارنة وفي اعتقاد روث بناديكت أن المؤسسات ليست إلا إطاراً لكنه فارغ.

اقترح سابير- وهو انتربولوجي آخر، ويعد من أساتذة الأنتربولوجيا الأميركين مع كل من بواس وكروبر- منذ عام 1925م تمييزاً بين ثقافات "أصيلة" وثقافات "غير أصيلة" الأولى "ثقافات منسجمة" متوازنة، وتعيش بتطابق كلي مع ذاتها، أما الأخرى فتحيل الفرد إلى حالة من الصدأ، كما تولد الكبت والاغتراب.

لقد كان للحرب العالمية الأولى دور الوسيط أو المساعد (Catalyseur) في التشكيك بأيديولوجية الضمير الحي المسيطرة والداعية للتماثل.

يعود الفضل إلى هرسكوفيتز باختراع مصطلح "نسبية الثقافة" ولتطويره مفهوماً منظماً لم يكن إلا خطوطاً لدى العديد من علماء الانتربولوجيا الأميركيين.

إن تميز الانتربولوجيا السياسية المرتبطة بالاستعمار والتي أدخلتها المدرسة الثقافية الأميركية أو بعبارة أخرى أن الفارق بينهما وبين الوظيفية الإنكليزية هو التالي: أن الوظيفية قد قبلت بسياسة الإدارة غير المباشرة لاعتبارها هذه السياسة وسطية بين التقليد والتقدم في الإطار الإمبريالي، أما المدرسة الثقافية فقد أصرت على مظهر الإدارة غير المباشر، القابل للتحول إلى إدارة ذاتية تتجسد في استقلال سياسي وثقافي أي في نفي الإمبراطورية.

لقد أظهرت الانتربولوجيا أنه لا يمكن رد السياسة إلى الدولة وإلى الدولة البيروقراطية بشكل خاص.

إن الخلاف العميق بين الوظيفية والثقافية لا يتناول التاريخ المحدد الذي تنال فيه تلك الدول الاستقلال بل مفهوم الاستقلال بالذات فالاستقلال في مرحلة ما قبل الاستعمار كان مرتبطاً بنمط وجود مختلف عن الغرب.

إعلان الانتربولوجيا الأميركية لـ "حقوق الإنسان"

إن البعد العملي لهذه الأطروحات والموقف العلنية، يتمثل بما أعلنه بعض الأنتربولوجيين الأميركيين بخصوص "المسألة الاستعمارية".

إن مفاهيم الأنتربولوجيا التطورية ليست إلا "عقلنة" مسطحة لأحكام التوسع المسبقة وممارساته وهي تستند بذلك إلى المركزية الإثنية كحدث عالمي.

لهذه الأسباب، واستفادة مما تستطيع الانتربولوجيا الحديثة تقديمه، اقترحت "اللجنة" نصاً لـ "إعلان حقوق الإنسان" كما يلي: "يحقق الإنسان شخصيته بالثقافة ويؤدي احترام الفروقات الفردية لاحترام الفوارق الثقافية".....الخ

غريول والسياسة بين البدائيين

من منظار لا يختلف كلياً في معناه العميق عن مدرسة الثقافة النسبية الأميركية تعتبرمدرسة غريول بعد عام 1930، تجربة جديدة حاولت التفكير بتعدد المجتمعات الإنسانية على قواعد جديدة، وباستقلال تام عن المدرسة الوظيفية الإنكليزية عن سائر التيارات الأنتربولوجية الفرنسية العاملة.

يعتقد غريول أن معرفة الغرب للثقافات الأفريقية وهي المعرفة التي جمعها بواسطة الأنتربولوجيا، إنما هي معرفة تستند إلى "تراث غربي من جهل الآخرين، وإلى استعلاء على الآخرين".

لم يتوقف نشاط غريول عند حد تقويم الثقافة الأفريقية وثقافة الدوغون وبدل أن يكتفي بفهمها راح يدافعون عنها بطريقة ما ويمثلها.

لقد دافع غريول بشدة عن التعددية الاجتماعية الثقافية، على كل الأصعدة خاصة حيث فكرت الإدارة الفرنسية بنوع من تطبيق شكل موحد على الزراعة.

الأنتربولوجيا المعاصرة

والقضاء على الأيديولوحية الاستعمارية

لقد أتاح الاستعمار للأنتربولوجيا شروط عمل وتسهيلات لم تتح سابقاً للباحثين بذلك ساهم التقدم الحاصل في العلوم الإنسانية على نشر فكرة تجدد العلوم الفرنسية فالإنسانية لم تعد إنسانية مميزة بتبعيتها للزمان بل بتنوعها المكاني على مر الوقت وبتعددية المدنيات التي لا يحق لواحدة منها أن تكون الوحيدة على مر الوقت وبتعددية المدنيات التي لا يحق لواحدة منها أن تكون الوحيدة أو الفريدة والشعوب التي يطلق عليها اسم المتأخرة أو صاحبة العقلية البدائية أو ما قبل المنطقية صارت تفاجئنا بغنى مؤسسا وسلاستها، وبعد أن تخلت عن المبالغات والغيبيات التي ارتبطت بها وقضت العلوم الإنسانية على التميز المسطح بين مجتمع عال وآخر أدنى، وعلى تقسيم العالم إلى شعوب متحضرة وأخرى بحاجة للتحضير. إن الفكرة التي غزت الاستعمار الأوروبي صارت خالية من أي جوهر ولم تعد أوروبا المدافع الذي لا يخطئ أو الراعي الشرعي للمدنية الوحيدة... لقد استطاعت أن تطور استعمارها وأن تسوغ، لكنها لم تستطع أن ترفعه إلى مستوى الشرعية.

العالم الثالث والأنتربولوجيا

إن الطابع المسيطر على تاريخنا هو طابع التحلل من الاستعمار هذا ما كتبه جاك بيرك.

لقد كان الاستعمار الكلاسيكي في العديد من مظاهر الشكل المميز لهذا الحوار الذاتي.

ولم يكن استعمال الأنتربولوجيا سوى أيديولوجية هذه الممارسة، وذلك يعني أيضاً إزالة النرجسية الإمبريالية من خلال تعددية وجهات النظر.

لقد غابت أفريقيا السوداء عن مؤتمر باندونغ، ولذلك أسباب ولكن عقد عام 1955م، وفي باريس، المؤتمر اِلأول للمثقفين والكتاب السود. أيضاً صوت الممثلين المعروفين ولأول مرة بشكل عالمي للمطالبة بحق الأفارقة في تقريرهم أمورهم بذاتهم.

لذلك لا تعني إزالة الاستعمار لمؤلفين أمثال جاك بيرك تفتح الثقافة الغربية على أسس جديدة بقدر ما تعني انبثاق أو إعادة انبثاق ثقافات مجتمعات حكم عليها أثناء الفترة الاستعمارية بالموت.

إن مناهضة الاستعمار الغربية على يد علماء الاجتماع وعلماء الأنتربولوجيا ظلت موقفاً حكيماً من ضمن النظرة الغربية، حتى حين كان يظن أن هذا الحكم من ضمن الماضي كما يفعل أنصار المدرسة النسبية الأميركية.

مطلب الأنتربولوجيا الأفريقية

في المرحلة الأولية يتطرق الشك إلى الأنتربولوجيا باعتبارها علماً بل إلى النتائج والتحاليل والأطروحات التي قدمتها الأنتربولوجيا الغربية لذلك اقتصر الشك إذا صح القول على ظهور الأنتبولوجيا الأفريقية بحدود سنة 1930، وهذه لم تذهب، ومن جهة أخرى نجد الإصرار على اكتساب عدة نظريات وهذا الاكتساب ليس تمثلاً للخطاب الأنتربولوجي بل تطويراً لمعناه إن نقد التحليلات السابقة لا يتحدد.

وفي الواقع لقد تسرب الشك أيضاً إلى داخل لغة الأنتربولوجيا الوظيفية فهي لم تعترف بأي رابط بين هذه اللغة وبين الأطروحات التي تحاربها.

بإمكان الأنتربولوجي الأفريقي الدفاع عن ثقافته، وتبرير قيمتها وممارساتها السائدة.

النقد الأفريقي الموجه

إلى اللغة الأنتربولوجية

لقد رأينا كيف علق غريول أهمية كبرى على الأنظمة الكونية البدائية وكيف رفض أن يربطها بما لها من وظيفة في العلاقات الاجتماعية وبرأيه أن التحليل يجب ألا يكون على حساب التفسيرات التي يقدمها البدائيون بالذات ومن هذه المنطلقات مع بعض التعديلات انطلقت أيضاً المدرسة الأميركية.

إن التفسيرات الوظيفية قد ركزت على علاقة الثقافة (القيم) بالكلية الاجتماعية العينية والمعنى الحقيقي للثقافة لا يتمثل فيما تؤكده.

وقد توصل أحد الأنتربولوجيين الذين تابعوا التحليلات الوظيفية منذ راد كليف-براون إلى النتيجة التالية: إن الأنتربولوجيا قد تخطت مستوى معنى ممارسات مقبولة بوظيفتها.

والوظيفية في حقيقة الأمر قد اقترحت وجود نظرية آلية بخصوص الثقافة (لا الثقافة البدائية وحسب بل الشعبية أو سواها) وقد أكد عدد كبير من منظري هذه المدرسة على مفهوم الثقافة الموازي لأداة الممارسات الاجتماعية.

ويظهر نقد العالم الثالث للأنتربولوجيا الكلاسيكية أي لتلك التي تعتقد أنها أحلت الإثنية المركزية الفكتورية بالنقد الذاتي الجذري (الثقافة النسبية) إن جذور الإثنية المركزية أعمق وأكثر تعقيداً مما يعتقد الأنتربولوجيون الغربيون.

إزالة الاستعمار والأنتربولوجيا المعاصرة

يقبل الأنتربولوجيون إلى حد ما الحكم القاسي الذي أطلقه العالم الثالث على علمهم أثناء الفترة الاستعمارية وبعد التشكيك الذي أطلقه العالم الثالث بحق الأنتربولوجيا الكلاسيكية بتنا نرى اليوم نقداً لهذه الأنتربولوجيا حتى من أبنائها ومستخدميها، وهو نقد لا يكتفي بتوجيه اللوم أو الشعور بالذنب للدور السلبي الذي ساهم فيه الاستعمار بتطوير الأنتربولوجيا، بل لقد تناول التقويم دور الاستعمار في خلقه خطاباً إن لم يكن "علمياً" فهو مميز على الأقل، وهذا ما سنتناوله.

ما نريد قوله إنه لا يمكن إنكار خطاب أنتربولوجي موحد برغم الاختلافات التاريخية له مظهر المادة العلمية الموضوعية، ولا حقيقة إمكانية فهم المجتمع بشكل موضوعي مستقل عن الاستعمار الذي يحول الإنسان والجماعة إلى مجرد أشياء.

المكانة الاستعمارية للأنتربولوجيا

لقد مر معنا كيف اعتبر أنتربولوجيو الثلاثينيات الإستعمار احتكاكاً ثقافياً أو معايشة آلية لثقافتين ثم اعتبروه تغيراً اجتماعيا أو سيرورة ألية من سيرورات التصنيع والتربية... الخ.

أما طبيعة هذا التغيير الخارجية، ومدى العنف والنهب الذي يمارسه، فأمور لم تُدرك (وهذا تحصيل لحاصل)، أو أنها أعتبرت دون أهمية (لقد كانت طبيعية، بل ضرورية بالنسبة للفيكتورين بعد الحرب وبعد ظهور حركات التحرر الوطنية اعتبرت دون أهمية (لقد كانت طبيعية، بل ضرورية بالنسبة للفيكتورين بعد الحرب، وبعد ظهور حركات التحرر الوطنية اعتبرت الأنتربولوجيا الدوافع الخلفية التي تكلم عنها الفيكتوريون دوافع أساسية: التعليم، التحضير، حمل الرجل الأبيض) إنها السيطرة.

الإنتربولوجيا خلال الموقف الاستعماري

تلك هي لغة الأنتربولوجيا التي تتخيل التباعد عن الاستعمار أيديولوجية وممارسة، فالأنتربولوجيا هي من الآن فصاعداً أمام الاستعمار إنها ستسحب نفسها من النظام الاستعماري فيما تعتبره من الخارج لكن هذا لم يحدث إلا ببطء وحين يشارف الاستعمار على نهايته وبالرغم من مواقف بعضهم الواضحة والجريئة ظلت الأنتربولوجيا ولمدة طويلة أسير الممارسات الاستعمارية ولم يكن تباعدها عن الاستعمار أكثر من وهم بل أن الخطاب الأنتربولوجي قد ذاب كلياً في الظاهرة الاستعمارية.

غرض الأنتربولوجيا

أرسى الاستعمار في العالم الثالث جملة سيرورات تقنية واقتصادية واجتماعية يشار إليها عادة تحت اسم "التطور" ولا نخال أن اختيار هذه العبارة اختيار علمي محض (خلافاً لكلمة "نمو" والتي تشير إلى نمو اقتصادي قابل للقياس بعبارات "المحصول الوطني الخام"). وحتى لو حاولنا تطبيقه على مجتمعات متطورة فعلاً تظل مسألة الطبيعة وتوزيع المحصول الوطني أمراً غير محدود والأمر يصبح أكثر وضوحاً حين تضع الطبيعة المسيطرة هدفاً يعود بدوره إلى مرحلة الاستعمار ومعلوم أيضاً أن علماء الأنتربولوجيا قد رأوا في تعدد أبعاد الظاهرة الواحدة غرضاً مميزاً.

ليست هناك تعليقات: