د. توفيق مجاهد سالم
مقدمة:
يتناول هذا البحث ثلاث مشكلات أساسية
مترابطة ومتداخلة ومكملة بعضها للأخر. تتعلق المشكلة الأولى بمفهوم المواطنة, في
معناه الاصطلاحي والمعجمي, وفي دلالته الفكرية والفلسفية, وفي علاقاته بمنظومة
المفاهيم الأخرى المحددة , والمؤسـسة لمفهوم المواطنة المتساوية.
المشكلة
الثانية. والتي تأتي مرتبطة بالأولى ومكملة لها, يتناول فيها البحث ظهور وتطور
مفهوم المواطنة في الفكر الحديث والمعاصر, وعلاقة هذا المفهوم بتلك الأسـس التي
يقوم عليها مفهوم المواطنة المتساوية, مثل الحرية والمساواة والعدالة والدولة
المدنية الحديثة ...إلخ.
المشكلة
الثالثة: سوف يتناول فيها الباحث على ضوء المعطيات المعرفية التي تم تناولها في
المبحثين السابقين, بعض القضايا المتصلة بمشكلة المواطنة المتساوية في المجتمع
اليمني. بوصفها واحدة من المشكلات الحية التي تشكل أحد المطالب الاجتماعية للعديد
من قوى المجتمع وتكويناته الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية..
من خلال هذه المنطلقات الثلاث للبحث, سوف نحاول
تناول مشكلة المواطنة المتساوية في أبعادها الفكرية والفلسفية , وفي مستويات وشروط
تحققها التاريخي في الواقع العملي.
وبموجب ذلك يتضح الهدف الذي يسعى هذا البحث إلى
تحقيقه وهو:
ـ
المساهمة في بلورة ونشر وعي ثقافي تنويري حول مفهوم المواطنة المتساوية بين أفراد
المجتمع بصورة عامة ونخبه السياسية والثقافية بصورة خاصة.
ـ
إثارة مشكلة المواطنة المتساوية من خلال الإشارة إلى بعض النماذج من القوى أو
الجماعات أو الحركات أو الشرائح الاجتماعية, التي تعاني من عمليات التمييز
والإقصاء والاستبعاد الاجتماعي والسياسي والثقافي ...إلخ ويجعل من مطلب هذه القوى
أو الجماعات في الحرية والمساواة والعدالة وغيرها من الحقوق التي تمنح الجميع حقوق
المواطنة المتساوية, مطلباً مشروعاً وعادلاً ليس لها فحسب, بل لكل أفراد المجتمع
الطامحين لبناء دولة مدنية حديثة تؤسـس للمستقبل الذي يقوم على هذه المبادئ والأسـس
التي يقوم عليها مفهوم المواطنة المتساوية.
أولاً:
مفهوم المواطنة.
شهدت العديد من الأقطار العربية في السنوات
الماضية تزايد ملحوظ في أعداد الأصوات المطالبة بحقوق المواطنة المتساوية. وقد
تعددت المصادر التي انبعثت منها هذه المطالب كما تعددت اتجاهاتها, واختلفت في سقف
مطالبها. وكان من الطبيعي أن تظهر مثل هذه الاختلافات بسبب اختلاف الأوضاع الخاصة
بهذا البلد أو ذاك. فهناك أقطار عربية تتسم تكويناتها الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية بقدر كبير من التعدد القائم على الاختلافات الطائفية والعرقية
والدينية فضلاً عن التنوع الثقافي
والاجتماعي الناجم عن هذه التعددية التي غالباً ما يتم تجاهلها من طرف الأنظمة
السياسية القائمة. ولا يختلف الأمر بالنسبة للبلدان التي لا تعاني من مشكلات
التعدد الطائفي أو الديني والعشائري/ القبلي, لكنها تمتاز بتنوع التركيبة
الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تشكل النسيج الاجتماعي وتعكس طبيعة ذلك
التنوع الطبيعي والجغرافي الذي مارس إلى جانب عوامل تاريخية وحضارية طويلة ومعقدة,
هذا القدر من التنوع والاختلاف, بين المكونات الاجتماعية والسياسية والجغرافية
للبلد الواحد. وهي كما يعلم الجميع أحد المحفزات العظيمة للتطور والتقدم الذي يقوم
على قاعدة التنوع والاختلاف, حيث تبث الحيوية والحركة وتجعل من عناصر التفاعل
والحوار أحد مقومات التطور, يترافق مع حضور لا
يقل كثافة للقوى والجماعات والحركات والشرائح الاجتماعية والسياسية والدينية التي
فرضت عليها جملة من الظروف والعوامل السياسية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية
العيش داخل محيط اجتماعي وثقافي ضيق, فارضة على نفسها نوع من الاستبعاد الاختياري,
هروباً أو تجنباً لواقع الاستبعاد والإقصاء القسري, وهو أشد قسوة وأكثر تعسفاً على
هذه أو تلك ممن يطلق عيها تسمية "الأقليات" التي تتنوع بتنوع وضعها
وجنسها ومكونها الاجتماعي أو الثقافي أو الديني…إلخ.
لكن مصدر انبعاث الأصوات المطالبة بحقوق
المواطنة المتساوية لم يأتي فقط, من هذا الوسط الاجتماعي والسياسي الخاص, بجماعة
الأقليات الاجتماعية أو الدينية أو الطائفية في المجتمع. خصوصاً إذا علمنا أن هذه
الأصوات ما تزال محدودة , ضعيفة وغير مسموعة بسبب محدودية المساحة المتاحة لها
للتعبير عن مطالبها الحقوقية والسياسية , ونظراً لغياب أو ضعف الدعم والتضامن
الاجتماعي الذي تلقاه من أطراف المجتمع السياسي والمدني على حد سواء. من هنا فإن
مطلب المساواة في الحقوق والواجبات وضمان الحرية في ممارسة هذه الحقوق والتعبير
عنها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً, وغيرها من الأسـس والمبادئ التي يقوم عليها
مفهوم المواطنة المتساوية, يأتي من داخل القوى والشرائح الاجتماعية الكبرى, وعبر
مؤسـساتها السياسية والمدنية وهي تتميز عن
الجماعات السابقة بأنها أكثر حجماً وتتسم بالتنوع والتعدد لكنها أيضاً,تعاني من
عمليات التمييز والإقصاء , وتشعر بغياب العدالة في التعامل مع قضاياها, وقد يعاني
بعض أفرادها, أحياناً,من النظرة الدونية التي يقابلون بها من بعض الأفراد أو
الجماعات. وكل هذا ينتج في واقع الأمر, بسبب تمركز قوى الهيمنة القابضة على السلطة
السياسية وعلى الثروة بيدها, والتي تتركز غالباً بيد جماعة تنتمي إما إلى منطقة
معينة في هذا البلد أو إلى تيار سياسي معين, أو أن السلطة تنحصر في جماعة يوحدها
الانتماء الطائفي أو الديني, أو القبلي, حيث تتوحد حول هذا النوع من الانتماء
الضيق, على حساب الانتماء إلى الوطن الذي يحتل لديها المرتبة الثانية, وهذا في
أحسن الأحوال.
ويقدم المشهد السياسي اليومي, وقبله المشهد
التاريخي العام, أمثلة عديدة لهذه المسالك الاقصائية,المفروضة على مكونات المجتمع
الأخرى, وكيف يكون الوضع قاسياً ومأساوياً بالنسبة للمناطق أو الجماعات التي تعبر
عن رفضها لسياسات الحاكم الذي يضع نفسه فوق كل نقد أو مُسائله .
ولأن عوامل التغيير التي فرضها منطق العصر
الراهن قد هبت وبدأ تأثيرها يتجلى على أكثر من مستوى, منذ نهاية القرن الماضي,
ووصلت عبر تراكم تنويرى ومعرفي واسع ساهم مع عوامل أخرى على قيام الثورات الشعبية
العربية, ضد أنظمة التسلط والاستبداد في أكثر من بلد عربي. فقد طرحت الثورات
العربية مبدأ المواطنة المتساوية, وجعلت منه ولأول مرة مطلباً تلتقي حوله مختلف
القوى الاجتماعية والسياسية والشعبية,
بوصفه أحد الأسـس الكبرى لبناء الدولة المدنية الحديثة.
فماذا نعني بمفهوم المواطنة, وكيف يستقيم
هذا المفهوم ويلتقي في دلالته الاجتماعية والسياسية والمعرفية مع مفهوم المساواة
والعدالة والحرية. وبالتالي كيف يشكل مع هذه المبادئ التي يتأسـس عليها, أحد
الشروط التاريخية ـ الاجتماعية والسياسية والمعرفية ـ لقيام الدولة المدنية
الحديثة.
1 ـ
معنى المواطنة ( Citizenship ).
يشير
مصطلح المواطنة في استخدامه اليومي,إلى الكلام الذي ينحصر عادة حدود الدولة وفي
توصيف الانتساب لها. لكنه أيضاً يعني كلا
من العلاقات بين دولة ما والمواطن الفرد, وكذلك العلاقات السياسية بين المواطنين
أنفسهم. كما يشير من ناحية أخرى إلى الحقوق وإلى الواجبات وإلى الفعاليات التي
تنتج من هذه العلاقات"[1]وعادة
ما ترسي التعريفات القاموسية لكلمة " المواطنة" القاعدتين الأساسيتين
لمفهومها المتكامل.
فالمواطنة
هي:
أ ـ الحالة التي يكون فيها الفرد مواطناً.
ب ـ عضوية الفرد في الجماعة , أي صفة موائمته مع
جماعته ومسئوليته حيالها.
والمواطنة ـ في إطارها القانوني ـ تمثل العلاقة
بين الفرد والدولة التي يقيم فيها , حيث يتقرر لكل منهما الحقوق والواجبات
الملحوظة قانوناً"[2]. وتقدم
العديد من المعاجم والموسوعات أنواع أخرى, من التعريفات المعجمية للمواطنة, وهي
تعريفات تتفق في العديد من الجوانب, لكنها تختلف أحياناً في جوانب أخرى, بسبب
اختلاف المنطلقات التي تعبر من بوابتها هذه المعاجم والموسوعات لفهم وتحديد معنى
المواطنة. إذ نجد بعض الموسوعات كما هو الحال مثلاً مع "دائرة المعارف
البريطانية" تركز على مسألة المقابلة بين الحقوق والواجبات, وتجد في دساتير
الدول الموطن المثالي لمعرفة معنى المواطنة, والوضعية الذي يحتلها هذا المفهوم.
فالمواطنة بحسب نصوص الدستور الذي تتحدد فيه حقوق وواجبات المواطنين تتضح كيف تضيق
أو تتسع طبيعة العلاقة التي تنشأ بين الفرد والدولة , وما تفرضه تلك العلاقة من
واجبات على المواطن وما تعطيه له من حقوق. وتشير المواطنة إلى قدر الحرية التي
يتمتع بها المواطن, بالإضافة إلى ما يلازم تلك الحرية من مسئوليات تقع على عاتق
المواطن تجاه الدولة"[3].
ويتخذ همفري مارشال وهو أحد الممثلين للنظريات الليبرالية الاجتماعية في مجال
المواطنة,من التفسيرات القانونية لحقوق المواطنة وهي الحقوق السياسية والحقوق
الاجتماعية والحقوق المدنية,منطلقاً له في تفسير المعايير الأساسية لتحقيق
المواطنة الكاملة.( مثلاً في حق المشاركة بالتصويت, والحق في حرية التعبير ,والحق
في تلقي المعونات..إلخ تتحقق المواطنة السياسية. في حين تتحقق المواطنة الاجتماعية
من خلال الحقوق الاجتماعية مثل حق الحياة الكريمة وحق التعليم والرعاية
الصحية...إلخ. أما الحقوق المدنية فتشمل الحقوق التي يتمتع بها الفرد بوصفه
مواطناً مثل الحقوق الشخصية وحق الملكية, وحق الحياة , والكرامة, والحرية الفردية,
والمساواة, والتكافؤ في الفرص بصورة عامة, وغيرها من الحقوق التي تكفلها الدساتير
وتؤكد عليها المواثيق والمعاهدات الخاصة بحقوق الإنسان, وتصونها عدالة القانون.
كما يتضمن تفسير مارشالأيضاً الالتزامات القانونية الذي ينطوي عليه مصطلح المواطنة ( مثل الألتزام بدفع الضرائب , و
بالخدمة في الجيش, والالتزام بالتقدم للوظائف..إلخ)[4]
ـ
تعريف المواطنة:
بالاستناد إلى ما سبق يمكن القول: إن
المواطنة في معناها العام والشامل هي: الانتماء إلى الوطن. وعملية الانتماء هنا
تشير: إلى علاقة المواطن بالوطن, في حدوده الجغرافية وتاريخه الثقافي والحضاري,
وينتج عنها انتماء المواطن لوطنه. كما تشير إلى علاقته بالمواطنين الآخرين الذين
يشاركونه العيش في الوطن, والتي تقوم على مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق
والواجبات, والمساواة أمام القانون دون تمييز بين الناس أو الجماعات, على أساس
اللون أو الدين أو العرق أو الجنس أو الفكر أو الوضع الطبقي, أو الانتماء السياسي
أو المذهبي, وينتج عنها احترام المواطنين لبعضهم البعض وإشاعة روح التسامح بينهم,
بغض النظر عن مظاهر التنوع والاختلاف. وهي تعني أيضاً علاقة المواطن بالدولة التي
ترعى شئونه وتحمي مصالحه.
ـ
نشؤ وتطور مفهوم المواطنة.
إن مفهوم المواطنة الذي يعد التأطير المعرفي
لمجمل الآراء والأفكار السياسية والاجتماعية والتاريخية حول المبادئ والأسـس التي
ستقوم عليها فكرة المواطنة المتساوية والتي ستشكل مع مجموعة من المبادئ الأخرى
الشروط التاريخية/ الاجتماعية والسياسية والثقافية/ لقيام الدولة الحديثة, قد ظهرت
وتبلورت في معانيها الأصيلة تلك, في سياق الفكر السياسي والفلسفة السياسية لعصر
التنوير, ومع نشؤ وتطور الدولة القومية بوصفها أحد نواتج عقلانية عصر التنوير.
فعلى المستوى المعرفي: كان لفلاسفة التنوير
ومنهم فلاسفة العقد الاجتماعي " هوبس " و " جون لوك" مروراً
بمفكري الثورة الفرنسية ومنهم "مونتسيكو" و "روسو" و "
وفولتير " وانتهاء بالفيلسوف
الألماني " إيمانويل كانط " دوراً مهماً في بلورة الأسـس والمبادئ التي
تقوم عليها فكرة المواطنة, ومنها الحرية والمساواة والدستور المنظم لحقوق وواجبات
المواطنين ويحدد علاقتهم بالدولة..إلخ.ونجد في الفكر السياسي والفلسفي لـ
"إمانويل كانط " مثالاً مهماً على دور التنوير في نشأة وتطور مفهوم
المواطنة وإشاعتها في الفكر الغربي الحديث والمعاصر. ففي مقالتيه" جواب عن
سؤال : ما التنوير ؟ و"مشروع للسلام الدائم" يطرح "كانط"
مفاهيم "المواطنة/ الشعب/ الجمهور" مقابل مفهوم "الرعية" وهو
ما يعد مؤشراً لنهاية مرحلة تاريخية من العلاقة بين المواطنين وسلطة الدولة التي
تحكمهم. حيث تتأسـس منذ الآن مرحلة جديدة تقوم على مبادئ ومفاهيم وشروط جديدة,
ومنها مبادئ العدالة والمساواة والحقوق السياسية وممارستها, وعلى عقد اجتماعي
جديد, ينظم العلاقات بين المواطنين من جهة وعلاقته بالدولة ومؤسـساتها المختلفة من
جهة أخرى, فضلاً عن تحديده الحقوق والواجبات الخاصة بالطرفين. ويؤكد
"كانط" في مقالته حول التنوير بأن هذه المبادئ والأسـس التي يقوم عليها
التنوير والتي تؤسـس لهذه المرحلة الجديدة في الحياة بأبعادها السياسية
والاجتماعية والثقافية لا يمكنها أن تتحقق إلا بشرط أساسي وجوهري وهو "شرط
الحرية والتفكير النقدي الحر في جميع المجالات"[5].
وبموجب ذلك فإن المواطنة أخذت تفترض تحولاً في شكل العلاقة بين المواطنين والسلطة,
يقودها من التبعية إلى المواطنة , وينقل مفهوم السلطة من السلطة الملكية المطلقة
إلى السلطة الجمهورية, بوصفها الراعية للشأن العام, حيث تتجلى المبادئ الحقوقية
للمواطنة بالممارسة اليومية للفكر النقدي الحر. والمعروف أن مفهوم الشأن العام
الذي يبلوره لأول مرة " إيمانويل كانط" سوف يشكل في سياق التطور
التاريخي اللاحق أحد المداخل المهمة لبناء وتأصيل فكرة المواطنة, وساعد من خلال
ذلك بعض المجتمعات على تخطي مشكلات التعددية السياسية والطائفية والعرقية ..إلخ
ولا شك في أن هذا التحول في المجال العام إلى مجال للنشاط السياسي, والتفكير
النقدي الحر, قد ساهم في ترسيخ مبادئ الديمقراطية, وتعميق الثقافة الحقوقية وثقافة
المشاركة,والتسامح, فضلاً عن, تعزيز الاندماج الاجتماعي بين الأفراد والجماعات
المتعددة.
وعلى
المستوى السياسي: كان للثورتين الأمريكية والفرنسية, وقبليهما الثورة
الإنجليزية دوراً مهماً في تطور مفهوم المواطنة" إذ مثل إعلان الدستور
الأمريكي 1787م والثورة الفرنسية 1849م بداية مهمة لعملية الانتقال بفكرة المواطنة
من المجال النظري إلى بعض ميادين التحقق العملي من خلال التأكيد على حقوق المواطنة
في الدساتير الجديدة لهذه الدول. علماً أن عملية التطور لمفهوم المواطنة وتحقيق
المساواة في الواقع العملي, بقت محدودة, كونها قد حرمت قطاعات كبيرة من السكان من
الحقوق السياسية والاجتماعية. إذ أستبعد الدستور الأمريكي الهنود الحمر وجنس
السود, والنساء من حقوق المواطنة. ولم تتمكن الثورة الفرنسية أن تترجم المبادئ
والشعارات الكبرى التي رفعتها في "الحرية والعدالة والمساواة " إلى واقع
متجسد على أرض الواقع ,يشمل جميع مكونات المجتمع. فهي على سبيل المثال, لم تضع
حداً نهائياً للعبودية التي استمرت في المجتمع الفرنسي, ولم تمنح المرأة حقوقها
السياسية, أو تساعدها على الخروج من دائرة الاستبعاد والتمييز والقهر المتعدد
الوجوه, حيث ظلت المرأة تعاني من عمليات التمييز والإقصاء والحرمان من ممارسة
حقوقها السياسية, ومنها الحق في التصويت الذي لم تناله إلا بعد الإعلان العالم
لحقوق الإنسان سنة 1948م.
وبمقدورنا القول " نظرياً على الأقل
" إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " قد شكل نقلة تطورية مهمة "
في مفهوم "المواطنة المتساوية", إذ مارس هذا العهد الدولي الجديد حول
حقوق الإنسان, دوراً مهماً في إدخال تعديلات مهمة على دساتير الدول المتقدمة وبعض
بلدان العالم الثالث, نتج عنها ظهور نصوص دستورية تؤكد على المساواة وعلى ضمان
الحقوق السياسية لجميع المواطنين في إطار الدولة الواحدة, وتحد من أشكال العنف
والتمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو
الجنس أو الدين ...إلخ.
ثانياً:
الدولة الحديثة ومفهوم المواطنة.
تطور مفهوم المواطنة المتساوية, لا شك في
أنه سار بصورة موازية مع تطور سلطة الدولة الحديثة, القائمة على المشاركة في صنع
القرار السياسي, وممارسة السلطة. ذلك أن السلطة الحديثة كما يعرفها " ميشيل
فوكو" هي "علاقة قوى"[6]
والسلطة بتعريفها البسيط هذا تعني برأي فوكو" أنها لا تمارس إلا على ذوات
أحرار. أي أن الأفراد والجماعات هنا يتاح لهم مجال امكانات للقيام بعدة تصرفات
وعدت استجابات وانماط سلوكية مختلفة , ولهذا السبب فهو, لا يرى في الرق علاقات سلطوية , كونها تقوم على علاقات
إكراه جسدية, ليست موجهة إلى ذوات أحرار"[7].
فعندما نتحدث عن ممارسة السلطة كصيغة فعل في أفعال الأخرين , ونصفها بأنها حكم بعض
الناس لبعضهم بالمعنى الأوسع لكلمة الديمقراطية , فإننا ندخل في السلطة الحديثة
عنصراً مهماً وهو عنصر الحرية.
هو ما يعني أن هناك علاقة جدلية بين نشؤ السلطة
الحديثة وتلك المفاهيم المؤسـسة لمبادئ ومكونات المواطنة المتساوية مثل "
الحرية, والديمقراطية والمساواة" وغيرها من مكونات المواطنة, التي لم يكن لها
أن تتحقق في المجال العملي إلا بوجود دولة مؤسـساتية حديثة ضامنة وراعية لهذه
الحقوق على مستوى التفكير والممارسة العملية.
وهذه العملية التاريخية تبدأ كما هو معروف
عندما قلبت عقلانية التنوير معادلة العلاقة بين المواطنين والسلطة , ونقل مجال
ممارستها إلى الميدان العام,عندما أسقطت شعار " أطيعوا ولا تفكرو, بل
نفذوا" واستبداله بشعار " فكروا وانتقدوا ثم طيعوا"[8]
حيث أصبحت الحرية شرطاً لممارسة التفكير النقدي الحر في كل ما يتصل بالشأن العام,
حيث تتجسد خلاله قدرات الناس على ممارسة حقوق وتأدية الواجبات المفروضة عليهم. هذه
التحولات الجديدة التي حدث بموجبها الانفصال التاريخي مع العصور الوسطى وشمل
مستويات متعددة من المعرفة والوجود والفكر السياسي والفلسفي الحديث, وظهرت على ذلك
النحو الذي تجلت فيه فلسفة التعاقد الاجتماعي, وشكلت مع جملة التحولات الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية الشروط التاريخية لقيام الدولة المدنية الحديثة التي ظهرت
وفق العرض السابق لميشيل فوكو بموجب آليات جديدة تعمل بها, وتقوم على ضوابط
قانونية جديدة تحكم توجهاتها وتحدد مساراتها, مستندة إلى تشريعات الفقه الدستوري
الذي تبلور في سياق تطور الفكر السياسي الحديث وفلسفة التعاقد الاجتماعي. وهنا
يمكن الإشارة إلى ثلاثة صور مختلفة لتطور مفهوم المواطنة في سياق هذا الفكر الذي
صاحب تطور العملية التاريخية للدولة القومية في الديمقراطيات الغربية وهي:
الجمهورية المدنية, والليبرالية, والليبرالية
الاجتماعية. حيث تُظهر الصورة الجمهورية المدنية, المواطنة بوصفها المشاركة
السياسية وهي تعود إلى كانط وميكافيلي, ويمكن اقتفاء أثرها البعيد في فلسفة أرسطو,
ومن منظريها المحدثين نذكر حنا أرندت, وبنيامين باربر. أما الصورة الليبرالية
فتظهر المواطنة بوصفها وضعية قانونية تركز على منح الفرد أكبر قدر ممكن من الحرية,
وعلى حرية السوق , وتنظر الليبرالية الجديدة إلى المواطنين كمستهلكين عقلاء
للبضائع . أما الصورة الثالثة للمواطنة وهي النظرية الليبرالية الاجتماعية , وهي
تنظر إلى المواطنة من زاوية حقوق المواطنة وواجباتها , وتتجلى نماذج المواطنة
الليبرالية الاجتماعية في الواقع العملي
في دولة الرفاه الاجتماعي التي ظهرت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية, وعلى المستوى النظري
نجد في فلسفة جون روالز الأخلاقية أحد ممثليها المهمين بالإضافة إلى همنفري
مارشال"[9].
وطبقاً لمنظور الليبرالية الاجتماعية , يجب أن تكون المواطنة شاملة وقائمة على
المساواة, أي تشمل جميع المواطنين ضمن نطاق الدولة, كما يجب أن تضمن المساواة في
الحقوق المدنية والسياسية الاجتماعية, كمقابل للمساواة في الواجبات.
ـ
عوامل تطور مفهوم المواطنة المتساوية:
نستطيع إذن أن نلخص, بعض عوامل وشروط تطور
مفهوم المواطنة المتساوية في الفكر الغربي وتطور الدولة الحديثة وهي:
ـ عوامل معرفية: وضعت أسـسها ومبادئها
الكبرى,عقلانية التنوير ومثله الفكرية والفلسفية حول الحرية و المساواة, والتسامح
وحقوق المواطنة.حيث كان التأسيس المعرفي بشقيه الأبستمولوجي والعملي, الأرض الخصبة
التي نماء فيها مفهوم المواطنة في شكله الحداثي الأكثر تطوراً. ذلك أن هذا الفكر
انطلق في تصوره للإنسان, بوصفه نقطة البدء في المعرفة والعمل. فهو بالمعنى
الديكارتي " الذات المفكرة " وهو بالمعنى الكانطي " العقل
الخالص" وفي المنظور "الهيجلي " هو "العقل الكلي" وهو
الإرادة الحرة "كما أنه بالمعنى الماركسي " الذات الفاعلة في العمل
والصانع للتاريخ ". وكما نلحظ, فإن تصورات عقلانية التنوير والحداثة للإنسان
تكشف عن درجة التمجيد العالية تجاه الذات الإنسانية وفاعليتها في عملية التطور
التاريخي للحياة. ولا شك في أن الحداثة قد جعلت بموجب ذلك، من مفهوم
"المواطنة المتساوية" معادلاً جوهرياً من حيث أهميته الابستمولوجية
وضرورته الوجودية لمفاهيم, الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية
والمساواة في الحقوق والواجبات..إلخ
ـ عوامل
سياسية: تمثلت بنشؤ وتطور
الدولة المدنية الحديثة, بوصفها التجسيد المباشر لهذه التطورات في ميادين الفكر
الفلسفي والفلسفة السياسية والاجتماعية, فضلاً عن كونها نتاجاً مهماً للثورات
الاجتماعية والسياسية التي قادتها الطبقة البرجوازية, وما شهدته بعض المجتمعات من
تطورات على مستوى التشريعات المنظمة لحياة مواطنيها القائمة على تحديد وضبط
العلاقة بين الحقوق والواجبات بنصوص الدستور وأحكام القانون.
ولا شك في أن "الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان" الصادر سنة 1948م, سوف يشكل علامة فارقة في عملية التحول التدريجي
في مفهوم "المواطنة المتساوية" وفي تسريع انتقاله إلى مرحلة جديدة, أخذت
فيها الكثير الدول تحرص بأن تكون دساتيرها موائمة مع المبادئ الأساسية للإعلاني
العالمي لحقوق الإنسان ولكافة المواثيق والمعاهدات الدولية الأخرى الخاصة بحقوق
الإنسان. إذ أخذت دساتير هذه الدول, تتضمن مختلف المبادئ والأسـس التي يقوم عليها
مفهوم المواطنة المتساوية. هذا التحول الذي شهده مفهوم "المواطنة" بعد
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" واقتران كلمة "المواطنة" بكلمة "المساواة"
ساهم في ظهور القراءات المتعددة لمفهوم المواطنة, كما ساهم في تناول مشكلات جديدة
تتصل بمشكلة المواطنة المتساوية وطرق فهمها وأساليب المعالجة لمشكلاتها الكثيرة
والمعقدة.
ـ عوامل
اقتصادية: تمثلت بظهور وتطور الاقتصاد الليبرالي
بمرحلتيه الكلاسيكية والحديثة, حيث ساهم التطور الاقتصادي في بلورة الأفكار
والمفاهيم الجديدة حول العمل الحر والملكية الخاصة والحرية الفردية وغيرها من
المفاهيم التي أثرت على حقوق المواطنة في المجتمعات الغربية, مثل المساواة
والعدالة والديمقراطية والحرية.
إن جملة العوامل التي أتينا عليها فيما سبق
وأخرى كثيرة لم نذكرها, مارست أدواراً مختلفة في ظهور وتطور مفهوم المواطنة
المتساوية, وساعدت على تحوله من كونه الإطار النظري لمجمل الآراء الفكرية
والسياسية حول حقوق الإنسان الطبيعية التي تضمن له العيش بحرية وكرامة في الحياة,
وفي كونه مواطناً له الحقوق نفسها التي يحوز عليها غيره من المواطنين الذين
يشاطرهم العيش ضمن الجماعة الواحدة أو الجماعات المتعددة, ويشاركهم الانتماء إلى
الوطن الواحد, دون تمييز أو إقصاء أو انتقاص من حقوقه السياسية أو الدينية أو
الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
ثالثاً
ـ المجتمع اليمني والمواطنة المتساوية.
بالانتقال للحديث حول المواطنة المتساوية في
السياق العربي عموماً, أو في السياق الخاص بالمجتمع اليمني, سوف يتطلب الأمر
التأكيد على ثلاث قضايا يمكن اعتبارها مقدمات خاصة بهذه الجزئية من موضوع البحث,
أي المتعلقة بمشكلة المواطنة المتساوية في واقع اليمن الراهن, في مستويات وجوده
المتعددة/ السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية..إلخ.
القضية
الأولى: تلخص مجموعة من المسائل التي تناولناها فيما سبق, ومنها: إن مفهوم
المواطنة الذي ظهر إلى الوجود بفعل جملة من الشروط التاريخية والاجتماعية
والسياسية والمعرفية/ وجعلت من أمر ظهوره مع غيره من المفاهيم الجديدة غير
المألوفة آنذاك وفي سياق العصور السابقة, مثل المواطنة , والمساواة في الحقوق
والواجبات وظهور أشكال من التحالفات بين الأفراد والجماعات على أسـس تتحدد
بالمنافع والمصالح المشتركة, والقول بدنيوية السلطة السياسية, مقابل القول بالمطلق
والمقدس للسلطة, وظهور مبدأ التداول السلمي للسلطة, والنظر إلى الديمقراطية بوصفها
مثلاً أعلى في الفكر والممارسة السياسية.
كل هذه الأفكار والمفاهيم والرؤى والتطورات الأخرى التي شملت ميادين السياسة
والاقتصاد والمجتمع, التي لازمت نشؤ وتطور الدولة الحديثة في السياق التاريخي
والحضاري للغرب, قد مارست دوراً مهماً في تأصيل مفهوم المواطنة على مستوى الفكر
النظري. الأمر الذي يعنى: إذا كان مفهوم المواطنة واضحاً ولا لبس فيه من حيث
تجسيده الواقعي للحقوق والواجبات على مستوى النظري من حيث هو التعبير المباشر
لمجمل الآراء والأفكار والمواقف والاتجاهات الفكرية المتعددة حول مشكلة المواطنة
ومفاهيم المساواة والعدالة والحرية وغيرها من مكونات المواطنة المتساوية. فإن
الحديث النظري عن المواطنة والمساواة الرسمية بين جميع مكونات المجتمع, لا يعنى
فعلاً وحقيقة أن هناك مواطنة متساوية أو أن مفهوم المواطنة قد تجسد واقعياً
وعملياً وعلى كافة المستويات وبصورة لم يعد فيها الحديث ممكناً عن مشكلات تتعلق
بحقوق المواطنة لأفراد أو جماعات أو طوائف سياسية أو دينية, أو اتجاهات فكرية أو
سياسية داخل هذه المجتمعات. فالحقيقة أن العديد من المواطنين في المجتمعات الغربية
المتطورة, ما يزالون عرضة لأشكال مركبة
ومتعددة من التمييز والإقصاء والعزل الاجتماعي والسياسي, بسبب انتماءاتهم العرقية
أو الدينية أو اللغوية, أو الجنسية..إلخ وهو ما يؤكد على غياب حقوق المواطنة المتساوية
للعديد من المكونات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية في هذه البلدان, وهذه
مقدمة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار ونحن نتحدث عن حقوق المواطنة المتساوية في
المجتمع اليمني, أو المجتمعات العربية بصورة عامة.
القضية
الثانية: تتصل بمفهوم المواطنة في المجال الثقافي والسياسي, ومستويات تحققه العملي
في الواقع اليمني الراهن. وهنا من الممكن أن نلخص الحديث حول مفهوم المواطنة
والمساواة, ومعرفة المشكلات الحقوقية التي تصب باتجاه الواقع الخاص بمشكلات
المواطنة في المجتمع اليمني.
إن الحديث عن المواطنة والمساواة في الواقع
اليمني, ومحاولة معرفة الحيز الذي تشغله في المجال الثقافي ومستويات التحقق لتلك
التطورات النظرية لمفهوم المواطنة,على مستوى الوعي الجمعي, في واقع الحياة اليومية
للمواطنين باختلاف انتماءاتهم السياسية أو الاجتماعية, أو الثقافية, أو المكانية,
يتطلب من الباحث القاصد معرفة حقيقة أوضاع المواطنة , أن يضع في اعتباره جملة من
المسائل التي تشكل العناصر المكونة لمشهد المواطنة والمساواة في اليمن, ومنها:
1 ـ
شهدت اليمن خلال العقدين الماضيين, وتحديداً منذ تحقيق الوحدة اليمنية وقيام
الجمهورية اليمنية عام 1990م جملة من التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية,
وقد مثلت العملية الديمقراطية العلامة البارزة في جملة هذه التحولات, حيث تمثل
المشهد الديمقراطي في اليمن, على سبيل المثال وليس الحصر بـ التعددية السياسية
والحزبية, بحرية الرأي والصحافة والمطبوعات, بظهور مؤسـسات المجتمع المدني, بوصفها
أحد المكونات الأساسية الفاعلة في المجال العام, وبإعلان مبدأ التداول السلمي
للسلطة كأحد المبادئ التي تقوم عليها الحياة السياسية في البلاد, وبالتالي تكريس
هذا المبدأ في الواقع العملي بالانتخابات الدورية ـ البرلمانية والرئاسية والمحلية
ـ إلى جانب العديد من الإجراءات القانونية الأخرى المتصلة بقضايا الحقوق والحريات,
ومنها ما ارتبط بالتأكيد على هذه الحقوق في الدستور وفي القوانين النافذة , ومنها
ما ارتبط بتوقيع اليمن على العديد من المعاهدات والاتفاقيات التي تضمنتها
التشريعات الدولية حول الحقوق والحريات بصورة عامة, أو المتعلقة بحقوق فئات وشرائح
اجتماعية معينة مثل المرأة, والمهم أو الجوهري في هذه المواثيق والاتفاقيات
الدولية, أنها تعمل على صون كرامة الإنسان وتحمي حقوقه كمواطن, وتحرم تعرضه لأية
انتهاكات أو تمييز , أو أية مصادرة لحقوقه السياسية.
هذه وغيرها من المعطيات النظرية موجودة, ولا
قبل لأحد على إنكارها, وهي حاضرة بصورة صاخبة, في سياق خطاب رنان "رسمي في
الغالب"عندما يتحدث حول المكاسب التي تحققت في مجال حقوق المواطنة على مدى
العشرين السنة التي مضت من عمر الجمهورية اليمنية.
لكن ماذا عن واقع المواطنة والمساواة في
الواقع العملي؟ ماذا عن وضع الدولة بوصفها الراعية لهذه الحقوق ؟ هل هناك مؤسـسات
تحمي وتصون هذه الحقوق وتكفل تحقيق مبدأ المساواة بين مواطنيها, وتنظر إليهم
جميعاً بدون تمييز أو انتقاء أو تحيز على أساس الموطن أو المستوى الاجتماعي أو
الانتماء القبلي أو الطائفي أو السياسي أو الديني ..إلخ؟.
2 ـ إن نظرة سريعة من الخارج لمشهد الحياة
اليومية وما يصاحبها من خطاب سياسي وإعلامي رسمي تكفي لتكوين صورة مثالية حول تطور
حقوق المواطنة المتساوية في اليمن خلال الفترة الماضية من عمر الجمهورية اليمنية.
غير أن هذه الصورة التي سوف تنطوي على حكم متسرع عند تقييم هذه المشكلة, سوف تفقد
مصداقيتها تماماً عندما يأتي أخر ويدرس مشكلة المواطنة والمساواة في اليمن من خلال
النزول والغوص في أعماق الواقع والنظر عن قرب في تفاصيل الحياة اليومية التي ستكشف
عن واقع مغاير تماماً لما تقدمه الصورة الأولى حول حقوق المواطنة المتساوية في
اليمن. ذلك أن المفارقة بين ما يقال عن تطورات كبيرة ومهمة شهدتها العملية
السياسية والديمقراطية, والمكاسب الاجتماعية والسياسية التي تحققت لقوى المجتمع
المختلفة ومنها تلك المتعلقة بحقوق المواطنة المتساوية في اليمن, لا شك بأنها سوف
تكون مفارقة مدهشة ومؤلمة في أنٍ معاً. ذلك أن قضايا الحقوق والحريات والمساواة
والعدالة والديمقراطية وغيرها من المبادئ والأسـس المكونة لمفهوم المواطنة بمعانيه
النظرية ومستويات تحققه في الواقع العملي, تتجه في مسيرتها على مدى العشرين السنة
الماضية, نحو الانحدار والتقهقر وليس التطور والتقدم.
فإذا ما قارنا مشكلة المواطنة, بين عقدي
التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجديد, فإننا سوف نلاحظ أن
المشكلة سوف تبدأ مسيرتها التنازلية منذ منتصف التسعينيات, وذلك بتقليص فضاء
الحرية المتاحة أمام المواطنين في ممارسة الحقوق السياسية بصورة لا تتفق مع مبادئ
العدالة وروح المساواة المجتمعية,مروراً بعملية تقليص مساحة المشاركة الشعبية
الحقيقة في العملية الديمقراطية بفعل الاستمرار بسياسة الانفراد بالسلطة, وإلغاء
دور مؤسـسات الدولة بعد أن اختزلت هذه المؤسـسات بشخص الزعيم والقائد والفخامة,
وانتهاء بتراجع روح الانتماء إلى الوطن وتزايد مشاعر الاغتراب الثقافي والنفسي لدى
المواطن وما نجم عنها من مشاعر الكراهية والنفور وعدم القبول للآخر. علماً أن هذه
المظاهر السلبية السائدة في الراهن لم تكن ملحوظة في بداية التسعينيات من القرن
الماضي, أي مع سنوات الوحدة الأولى, حيث تحولت العديد من الممارسات اليومية من
أطراف النظام السياسي الذي بدأ ينقلب على
دستور الدولة وعلى الحياة الديمقراطية وعلى مبادئ العدالة وروح القوانين, بسياسية
مغايرة هي سياسية الحروب وما ينجم عنها من تبعات إقصائية لفئات واسعة من السكان
وانضمامها لطوائف اجتماعية أخرى لم تكن يوماً خارج دوائر العزل والاستبعاد.
إن ما يدفعنا للقول إن مشكلة المواطنة في
اليمن ليست في أحسن أحوالها كما يعتقد البعض, لأنها على الضد من ذلك تماماً, هي في
أسوء حالاتها, ولا يمكن لذلك الخطاب السياسي وما ينطوي عليه من مظاهر الزيف
الأيديولوجي أن يخفي حجم المشاكل المرتبطة بحقوق المواطنة في اليمن, وما تقود إليه
من نتائج سلبية متعددة تشمل تقريباً مختلف مستويات الوجود الاجتماعي الراهن,
وتتجلى بالعديد من المظاهر ومنها ـ على سبيل التمثيل وليس الحصر ـ
ـ تدهور كبير وغير مشهود في شعور فئات مختلفة
من السكان, الشباب بصورة خاصة, بالانتماء للوطن, بسبب وضعهم الاقتصادي, وفقدان
الشعور بالأمان الناجم عن انسداد الأمل بالمستقبل, مع فقدان الأمل بالتغيير وخيبة
الأمل بالنخب السياسية القابضة على السلطة والثروة, في ظل تفشي الفساد بأشكاله
المختلفة,المالي,الإداري,السياسي,ـ مع تراجع شديد في الخدمات الاجتماعية, التعليم
والصحة, بشكل خاص,وانهيار الخدمات الأساسية مياه, كهرباء, مواصلات, طرق..الخ.
ـ ديمقراطية, لا تتوقف وسائل الإعلام والنخب
السياسية الحديث حولها, في وقت يتزايد الشعور العام لدى فئات واسعة من السكان أن
العملية الديمقراطية ما هي إلا بوابة عبور لقوى الفساد, من أجل اكتساب المشروعية
في الوصول إلى مراكز القرار السياسي, عن طريق التزوير الفاضح والمنظم لكل العمليات
الانتخابية في البلد.
ـ
شعور عام بالظلم,وغياب العدالة بمستوياتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية,
بسبب التمييز, وتحيز العدالة إلى جانب المواطنين الذين ينتمون إلى جهات أو مناطق
آخرى, والمقصودين بهذا الوضع تحديداً المواطنين الذين ينتمون إلى أقاليم معينة في
اليمن, ومنها:
مناطق الجنوب, الذين يشعرون بأنهم وعلى مدى
العشرين السنة السابقة, قد جردوا من حقوق المواطنة, بأبعادها ومستوياتها الوجودية
والمعرفية, والإنسانية.كما يشمل ذلك أبناء مناطق أخرى يجري التعامل معهم من طرف
القوى المهيمنة على السلطة السياسية على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية وتشمل
حالة التمييز هذه أبناء محافظات كثيرة في اليمن. أما الحالة الثالثة من التمييز
على أساس الانتماء الجغرافي, حيث يصنف مواطنيها على أنهم مواطنين من الدرجة
الثالثة أو الرابعة, وهي كما نعرف تخص أبناء "تهامة" الذين يشكلون
غالبية سكان محافظة الحديدة, وأجزاء من محافظات أخرى مجاورة.
إن مشكلة المواطنة والمساواة في اليمن لا
تنحصر تجلياتها عند هذه المظاهر التي أشرنا إليها, إذ نجد العديد من الظواهر
المؤكدة على غياب المواطنة المتساوية, فضلاً عن غياب مقدمات وشروط تحقق مفهوم
المواطنة في ميادين الحياة العملية, ومنها:
أ ـ
وجود المئات من حالات الرق " العبيد" منتشرة بحسب بيانات حديثة لمنظمات
الحقوقية في مناطق مختلفة من اليمن([10])
ب ـ
ما تزال "المرأة" في اليمن تعاني من عمليات القهر والتمييز وعدم التمكين
من حقوقها في الحياة العملية. حيث تبين العديد من الدراسات الحديثة العديد من
المؤشرات التي تؤكد,ليس فقط,على تزايد عمليات التمييز والاستبعاد الاجتماعي
والسياسي والاقتصادي للمرأة في المرحلة الأخيرة, فضلاً عن تعرضها لضغوطات ثقافية
ونفسية ودينية من أطراف القوى التقليدية التي تزايد حجم نفوذها الاجتماعي والسياسي
مؤخراً,بهدف الضغط على المرأة وإجبارها على الصمت وملازمة الدار وعدم التحدث والمشاركة
في قضايا الشأن العام.ولمعرفة الواقع المخيف الذي وصل إليه وضع المرأة في
اليمن,يكفي أن نشير إلى نتائج الاستطلاع التالي: حيث كشفت صحيفة الاندبندنت
البريطانية اليوم(8مارس 2012م) نتائج الاستطلاع الذي أجرته حول أفضل و أسوا
الأماكن في العالم لعيش المرأة ضمن قائمة أفضل الأماكن لعيش المرأة بشكل عام،
احتلت أيسلندا المركز الأول، وجاءت اليمن في المركز الأخير كأسوأ مكان لعيش المرأة
على وجه المعمورة"[11].
ج ـ
ما تزال العديد من القوى والحركات الاجتماعية والسياسية والدينية عرضة للاضطهاد
والقهر السياسي والاجتماعي, والحرمان من ممارسة حقوقها في التعبير عن رؤاها
الفكرية أو السياسية أو الدينية, كما يعاني المواطنين المنتمين لهذه الجماعات أو
الحركات الاجتماعية من عمليات تمييز وإقصاء من الفرص المتساوية مع غيرهم من
المواطنين.
د ـ
وفي اليمن ما يزال العديد من المواطنين يحرمون من حقوق المواطنة بسب المهنة, وهم
يأملون بحقوق المواطنة المتساوية, بفعل عمليات العزل الاجتماعي والتمييز الوظيفي
أو السياسي والتعليمي وما ينتج عنه من شعور بالظلم وهذا الأمر ينطبق على سبيل
المثال على شريحة " الحلاقين أو المزاينة, والجزارين. حيث يعاني أبناء وبنات هذه
الشريحة الاجتماعية في المجتمع اليمني من عمليات تمييز واستبعاد وعزل اجتماعي
متعدد الوجوه.
ه ـ
وفي اليمن ما تزال شريحة كبيرة من السكان تعرف بـ بشريحة الأخدام أو
المهمشين" عند النظر إلى أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الشديدة
البؤس, سوف يكون من الصعب عليك الكلام عن المساواة وحقوق الإنسان وأنت تشهد حجم
المعانات التي تثقل كاهل هذه الفئة الكبيرة من الناس المنتشرة في مختلف أرجاء
البلاد, حيث يمتهنون أعمال النظافة العامة بشكل خاص, حيث يعملون في ظروف عمل
قاسية, ويسكنون في أماكن عيش أكثر قسوة, محرومين في الغالب من الحقوق الاجتماعية
والسياسية والتعليمية..إلخ كل ذلك يترافق مع نظرة اجتماعية دونية لهذه الفئة
الاجتماعية, وعملية عزل واستبعاد مُحكمة لأفرادها أحياء أو أموات*[12].
ـ خلاصة:
إذا كان بوسعنا أن نقول في نهاية بحثنا
هذا: إن المواطنة في إطارها العملي تعني الممارسة الكاملة للحقوق والواجبات
المدنية والسياسية, من دون أي تمييز ولا استثناء. وهو ما يعني أن جميع المواطنين
الذين يعيشون فوق تراب الوطن يتمتعون بالمواطنة الكاملة والمتساوية في المجتمع,
بدون تمييز قائم على معايير تحكمية مثل:
الدين أو الجنس, أو اللون , أو المستوى الاقتصادي, أو الانتماء السياسي, أو الموقف
الفكري.
فإن ما يحتاج إليه المواطن اليمني والعربي
عموماً, هو إلى جانب توفر تلك الشروط التاريخيةـ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
والثقافيةـ التي أتينا عليها بوصفها أسـس ضرورية لقيام مواطنة كاملة تقوم على
مبادئ وأسـس هي الأخرى ضرورة ولازمة وفي مقدمتها شرط الحرية والمساواة والعدالة
ووجود عقد اجتماعي جديد ينظم الحقوق والواجبات الكفيلة بتنظيم تلك العلاقات التي
ذُكرت في سياق هذا البحث, ومنها علاقة المواطن بوطنه انتماءً وثقافة وتاريخا,ً
وعلاقته مع مواطنيه الذين يشاركهم العيش والانتماء للوطن, وكذلك علاقته بدولته
التي تقوم على مبدأ احترام الحقوق وأداء الواجبات المفروضة على المواطن. هو أيضاً
تحول المواطنة إلى إحساس وثقافة وشعور ناضج بالانتماء من طرف كل فرد في المجتمع,
وهذا لا يتم إلا عندما تتحول المواطنة إلى قيمة ثقافية وأخلاقية وسياسية في
التكوين الشخصي للمواطن.ويتم ذلك من خلال إصلاح شامل ليس فقط للعملية السياسية
التي تطالب بها مجتمعاتنا العربية في الثورية الشعبية القائمة, من خلال وجود عقد
اجتماعي " دستور جديد" يؤسـس لمرحلة تاريخية جديدة, وإنما أيضاً وبالتزامن
معها مجموعة أخرى من الإصلاحات أخرى لا تقل عنها أهمية, تبدأ بشكل خاص بإصلاح
التعليم والبحث العلمي, وتنتهي بإصلاح العقل, فبدون إصلاح هذا الأخير من الصعب
إصلاح القضايا الأخرى.
د.
توفيق مجاهد سالم
[1]) ينظر: ريان فوت. النسوية والمواطنة . ترجمة:أيمن بكر و سمر الشيشكلى.مراجعة وتقديم. فريدة النقاش.المجلس الأعلى للثقافة .مصر. 2004م ص32
[2] ) شفيق المصري . المواطنة في ضوابطها الدستورية . مجلة التسامح . العدد 20 . خريف 2007 السنة الخامسة , عمان ص 52
[4] ) ينظر: ريان فوت. النسوية والمواطنة . مرجع سابق ص 33
[5] ) إيمانويل كانط : جواب
عن سؤال : ما
الانوار ؟ ترجمة: رشيد بو طيب. مجلة
عيون. العدد
12 السنة
السادسة 2001م
المانيا ص 33
[6] ) ميشيل فوكو: بحثان
حول الفرد والحرية . منشور
ضمن كتاب فوكو مسيرة فلسفية ـ تأليف ص194
[7] ) ميشيل فوكو: المرجع نفسه ص197
[8] ) إيمانويل كانط . جواب عن سؤال : ما الأنوار , ص 32
[9] ) ينظر : ريان فوت . النسوية والمواطنة . مرجع سابق ص33, 34
[10] ) كشف خالد عايش رئيس الملتقى الوطني
لحقوق الإنسان في محافظة الحديدة باليمن النقاب عن حالات رق «عبودية» في الحديدة
تصل الى خمسمائة حالة لدى بعض المشائخ في المنيرة والحدادية والمغلاف ومنطقة
المعرض بالزهرة، إلا انه أكد انه لم يتلق أية شكوى من أي مواطن «مستعبد» حتى يقوم
الملتقى الوطني بمتابعة حالته وتحريره من الرق الذي يعتبر منافيا لحقوق الإنسان.
[11] ) مأرب برس 8 مارس 2012م
[12] *) في حياتهم يتم
عزل هذه الفئة تماماً فهم يشتركون مع باقي فئات المجتمع بأية فعاليات اجتماعية
ويفضلون العيش كجماعات مغلقة ( استبعاد قهري واختياري ) وأثناء موتهم لا يجدوا من يعزيهم أو يشارك في تشييع موتاهم, لهم مقابرهم الخاصة , وربما غير معروفة
للآخرين, لا
يدفنون موتاهم مع باقي الأموات. أو لا يسمح لهم بذلك , وهنا تكمن المأساة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق