الأحد، 8 أبريل 2012

ورقة عمل : الاسماعيليون في اليمن والعدالة الانتقالية


ورقة عمل : الاسماعيليون في اليمن  والعدالة الانتقالية
د. صادق عبده علي قائد-أستاذ التاريخ بجامعة عدن
يرى بعض الباحثين بأن عصر العولمة وتقنياته الحديثة – خاصة في مجال تدفق المعلومات – لعب دوراً أساسياً في إحياء الثقافة المحلية ( ثقافات الأقليات ) أو بعبارة أصح ثقافة الجماهير الشعبية    ( الثقافة المحلية ) بتياراتها واتجاهاتها المختلفة ، والتي اتسمت العديد منها بالتطرف ، مثل إحياء السلفية ، والحفاظ على التراث وخصوصيته العرقية أو الدينية أو التاريخية أو القبلية . وقد حدد أحمد مجدي حجازي في دراسته العولمة وتهميش الثقافة الوطنية ، قائلاً : بأن انتشار حركات التطرف بكل أشكالها في أجزاء كثيرة من العالم ، هو نتاج لآليات الرأسمالية وتشجيعها للثقافات المحلية المتعارضة (1) .
ولو حاولنا إعطاء قراءة فاحصة لعالم العولمة بكل تعقيداته ، يمكننا أن نتوقع في المستقبل القريب ، بروز جماعات سياسية أو سياسية دينية أو سياسية قبلية ، في صدارة الحياة الاجتماعية – الثقافية ، بهدف تحقيق مطالبها المشروعة في الحياة الحرة والكريمة ، والتي تأتي في مقدمتها المواطنة المتساوية ، لاسيما إذا عرفنا أن أهداف الجماهير الشعبية من ربيع ثوراتها العربية ، هي تحقيق الحريات الجماعية باعتبارها ذات أولوية فائقة تحتمها طبيعة المرحلة(2) ، التي تمكنت فيها بعض الأقليات من الاستأثر بالسلطة والثروة بما يخدم مصالحهـا الأنانيـة دون اعتبـار للمصالح المجتمعيـة في اليمن .
وهذا الأمر بحاجة ماسة لمعالجات حقيقية . خاصة إذا أدركنا بأن الاضطرابات الاجتماعية السياسية التي تعانيها اليمن في وقتنا الراهن مردها بالأساس للتأثير القوي الذي تملكه العولمة : المال ، والإعلام ، والمعلوماتية ، والتي أدت لأحداث تداخل بين الاقتصاد والثقافة والسياسة في مختلف بلدان العالم ، مما ترتب على ذلك فرز مكونات ذات مساس بـ : "الهوية" و "الأمة" و "الدين" و "القيم" ، الأمر الذي خلف آثاراً واضحة على واقع الحياة الاجتماعية – الثقافية العقيدية ( الحضارية \ الحيوية ) . والذي أسفر عنه حدوث مزيداً من التغريب أو الاغتراب سواء في المجتمع اليمني بصفة خاصة أو في إطار المجتمعات العربية بصفة عامة . ليس هذا فحسب ، بل إن التغريب أو الاغتراب أخذ ينتشر على نطاق أوسع بين الفرد أو الجماعة داخل المجتمع الواحد .
وتأسيساً على ما سبق ، نعتقد بان بروز الأزمات الاجتماعية ، السياسية ، المذهبية في الساحة السياسية اليمنية ، جاءت تجسيداً لمدى الاغتراب الواسع الذي أخذ يتغلغل بين صفوف المجتمع اليمني ، والتي تأتي في مقدمتها القضية الجنوبية ، ومسألة صعده أو حروب الحوثيين ( أنصار الله ) ضد النظام البائد .
وعلى الرغم من ذلك تمثل مسألة الاسماعيليين في اليمن بؤرة قابلة للانفجار في المستقبل لاسيما إذا عرفنا أن الحركة الإسماعيلية عانت منذ حقبة طويلة  بصفة عامة ، ومرحلة حكم صالح بصفة خاصة من الاضطهاد والظلم ، كنتيجة لمعاناتها من تحدي السلطة ؛ والتي تعني سلطة العرف الشائع ، أو سلطة الدين ، أو سلطة الحكومة ، من منظور القوى المنتصرة التي تمتلك كل خيارات المجتمع .
الواقع أن الأنواع الثلاثة من السلطة – المذكورة آنفاً - ، تؤثر في الثقافة تأثيراً سلبياً ، إذا استخدمـت بطريقة تعسفية ، ولكن الصراع الأكبر للثقافة في الأقطار العربية عامـة ، واليمن خاصـة ، اتضح بصورة واضحة في صراعها مع كل من السلطة الدينية ، والسلطة الحكومية ، والذي اتخذ في الحقبة الأخيرة شكلاً حاداً ، وأصبحت تمثل مظهراً من مظاهر الصراع الثقافي في بلادنا(3) .
ولعل ابلغ دلالات الصراع الثقافي – السياسي ، الذي عانى منه الإسماعيليون في اليمن منذ حقب تاريخية عديدة ، من أهمها :
أولاً : أن الإمامة الإسماعيلية ، تخالف الإثنا عشرية ، التي تؤمن بها مذاهب التشيع ، بما في ذلك الإمامة الزيدية ، مما ترتب على ذلك بروز الخلافات المذهبية الحادة بين الاسماعيليين والزيود .
ثانياً : أن قيام الدولة الإسماعيلية في اليمن ، عرفت منذ بداية عهدها ، بأنها لعبت دوراً مهماً ، في التاريخ السياسي اليمني ، هو دور التخفي أو الستر ، وهي حقبة اكتنفها الغموض الكثيف إلى درجة أن بعض هؤلاء الدعاة كانوا يتسمون بأسماء الأئمة المستورين ويتلقبون بألقابهم للتستر عليهم ، وهذا هو السبب الذي جعل البعض يخلط بين الأئمة المستورين وبين الأئمة المستودعون – أي الدعاة الذين تحملوا عبء نشر الدعوة للأئمة المستورين – فضلاً عن وقوع الاختلافات في الأئمة المستورين ، وكثرة خوض الخائضين ، وقول القائلين . كما شجع الخلفاء العباسيين والخصوم الآخرين من السنيين على الطعن والتشكيك في صحة نسب الفاطميين وعقائدهم(4) .
وفي ضوء هذا ، كان من الطبيعي أن تواجه الدولة الصليحية في اليمن 439 – 532هـ أي 1047 – 1137 م هجمة شرسة من قبل العديد من القوى السياسية السُنية ، التي كان لها الفضل الأعظم في إقناع زعماء الدولة الأيوبية في مصر على احتلال اليمن ، وتأسيس دولة أيوبية فيها ما بين 569 – 626 هـ أي 1173 – 1228 م .
ثالثاً : كان من سوء طالع الدولة الصليحية ، أن الدولة الأيوبية في اليمن جاءت على أنقاضها ، لاسيما إذا عرفنا أن الدولة الصليحية في اليمن عانت في أواخر عهدها من انقسامها إلى دويلات مستقلة ومتنافرة . مما ساهم ذلك في تجاهل الباحثين للانجازات العظيمة التي حققها زعماء الدولة الصليحية في اليمن ، كنتيجة للدور الفعال الذي لعبته الدولة الأيوبية – حسب ما أشارت إلى ذلك بعض المراجع التاريخية – " في تأمين الحدود الجنوبية للوطن العربي ، والسيطرة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ، والعمل على منع أية محاولة صليبيـة للاعتداء على حرمة الأماكن المقدسـة ، والقضـاء علـى أي تفكيـر صليبي في الاتصـال بالحبشـة ، أو تسرب الفكـرة الصليبيـة في البحر الأحمر جنوباً إلى الأحباش ، مما قد يؤدي إلى زيادة متاعب السلطان صلاح الدين الأيوبي " (5) .
ومن هذا المنظور شكلت هذه الأهداف – كانت ولا زالت – أهداف مقدسة في نظر القوى المعادية للاسماعيليين في اليمن ، ولعل هذا ما دفع القوى الزيدية – السُنية على حد سواء ، منذ ذلك الحين ، على إهمال المطالب الحياتية والإنسانية للطائفة الإسماعيلية لضمان إبقائها متخلفـة وفقيرة ، وسجينـة أحداث داميـة ، وتصفيات جسديـة طالـت أعداد كبيـرة منهم قبـل استقرار الحكم الأيوبـي في اليمن .
في السياق نفسه تجاهل أولئك الباحثين الأهداف التوسعية الاقتصادية للحملة الأيوبية على اليمن ، والتي كان خير تجسيد لها تجزئة اليمن إلى  أقطاعات صغيرة ، وفقاً لنظام الإقطاع الحربي والإقطاع الإداري الذي أدخله الأيوبيين إلى اليمن . والذي ترتب عليه تقاسم الأراضي اليمنية بين الوالي – الذي أصبح فيما بعد ملك – وحاشيته وقادة جنده (6) . بعد مصادرتها من ملاكها الأصليين من أبناء اليمن بطرق وحشية – عنيفة ، تتناقض مع المبادئ الدينية – الإنسانية في أبسط صورها . مما أدى إلى انكفاء الإسماعيليون في اليمن على أنفسهم منذ ذلك الحين .
الواقع أن تحقيق مبادرة الحق في المواطنة المتساوية لأبناء الطائفة الإسماعيلية في اليمن ، من خلال برنامج عمل ثقافي – اجتماعي في المدة ما بين 2012 – 2016 ، التي أطلقها الدار المحمدية الهمدانية للدراسات والأبحاث ، تدعونا إلى تنظيم جهودنا وفقاً للأولويات المطلوبة لتحقيق العدالة الانتقالية التي تضمن الحقوق الأساسية للإسماعيليين في اليمن ، باعتبار ذلك حق من حقوقهم الكثيرة علينا كنتيجة لانجازاتهم العظيمة في تاريخ شعبنا . ويكفي أن نشير بأن اعتلاء أروى بنت أحمد الصليحي سدة الحكم – أسوة بالحكام العظماء من الرجال الذين حكموا قبلها اليمن من قبل الأمراء الصليحيين – كان تعبيراً عن الرقي الثقافي – الحضاري الذي بلغته بلادنا آنذاك . وفي مقدمة هذه الأولويات ، هي :
أولاً : أن يضـع الدار المحمديـة الهمدانيـة للدراسات والأبحاث المعروف اختصاراً باسم (رؤى) خطة عملية حديثة لكتابة وإعادة كتابة تاريخ الإسماعيليون في اليمن آخذه في اعتبارها المسائل التالية :
أ)أن التراث الإسماعيلي في اليمن ، يمثل جزءاً من التراث الإسلامي العام ، الذي يعاني تاريخه هو الآخر من التشويه والتزوير بصورة فجة أفقدته موضوعيته وعقلانيته . لأن كتابة المؤرخين المسلمين في تلك الحقبة ، كان مجرد رواية لأحداث الماضي . وكانت مهمة المؤرخ هي النقل لا النقد . وقد ارجع عثمان موافي ذلك ، قائلاً : "أن مرد هذا في أغلب الظن اتصال المعرفة التاريخية بالمعرفة الدينية منذ نشأتها في البيئة الإسلامية بصفة خاصة ، واتصالها بفلسفة الأديان في العصور الوسطى بصفة عامة . والمعرفة الدينية على كل حال ، معرفة نقليه تثبت بالنقل والسماع وتتطلب القبول والتسليم ، وعلى هذا فهي ليست في حاجة إلى نقد لأنها فوق النقد "(7) .
وواقع الأمر في هذا الصدد ، يؤكد بأن أعداء الدولة الصليحية ، كان لهم دوراً مؤثراً في صياغة تاريخها من المنظور القبلي – المذهبي ، الذي ينسجم مع أطماعهم في المنطقة .
الواقع أن العقلية النقلية التي سادت في حقبه سابقه أصبحت في وقتنـا الراهن مسألة غير مقبولة لاسيمـا إذا عرفنا أن الدولة المدنية المنشودة من قبل ثـورة الشباب ، قائمـة على رفض الاستبداد الفكري الذي تمارسه القوى الدينيـة – السياسيـة ، التي تسعى لأصباغ أهدافها ومعتقداتها الفكرية والسياسيـة الخاصة بصفة إلهية .
ومن هذا المنطق ، سوف تشكل الجهود التي سيبذلها الدار المحمدية في هذا المضمار ، البداية الواقعية لإعادة كتابة التاريخ الإسماعيلي والإسلامي بصورة موضوعية وعقلانية ، تحدد بأن كتابة تاريخ الأمم في الماضي والحاضر والمستقبل ، يجب تسجيله من منظور بعض الباحثين الإسلاميين منذ عهد بعيد باعتباره " تفاعل الفرد مع الزمان والمكان "(8) .
ب)أن كتابـة وإعادة كتابة تاريخ الإسماعيليون في اليمن ، يجب أن يتضمن إبراز المواقـف المُشرفـة والمُشرقة في بناء الدولة اليمنية في العصور الوسطى باعتبار أن الصليحيون كانـوا سباقين – على المستوى التاريخي – "في تأسيس دولة يمنية موحدة على كامل التراب اليمنـي".(9)
 ولعل هذا ما دفع العديد من المؤرخين الإسلاميين لتمجيد دور الدولة الصليحية في توحيد اليمن تحت سلطتها آنذاك ، وذلك لكونه " أمراً لم تعهده اليمن في حقبة الجاهلية أو الإسلام " (10) . لاسيما إذا عرفنا أن الدولة الصليحية تمكنت من بناء دولتها من خلال إشاعة العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد . ولعل أبلغ دليل على ذلك أن المنافسين للسيدة الحرة أروى  بنت أحمد – على سبيل المثال – حاولوا ازاحتها عن سدة السلطة مرات عديدة لكنهم لم يتمكنوا من ذلك ، بفضل اصطفاف الشعب إلى جانبها .
ج)أن الرؤية الدينية – السياسية للدولة الصليحية ، امتازت بالاعتدال والوسطية ، وكانت بذلك على طرفي نقيض مما ساد في الدولة الإسماعيلية الأولى ( الدولة القرمطية ) ، التي أسـسها علي بن الفضل التي انتهت عام 915 م . وكان لها أهداف غير معلنة ظلت حبيسة الصدور منذ حقبة الستر التي مرت بها الدعوة في بداية عهدها .
أما الصليحيون ، " فقد جهروا بمذاهبهم اعتقاداً وعملاً ، واستفاد الناس من هذا الجهر فوائد تاريخية عظيمة ، إذ بدت لهم صفحة هذا التشيع بريئة نقية مما ابتدعه المبتدعون وغلا فيه الغالون ، فتقرر في الأذهان أنه لا فرق بين المذهب الفاطمي الأصيل ، وغيره من مذاهب التشيع المعتدل الخالي من الغلو والابتداع والانحراف إلاّ في شيء من الفروع والأحكام ، لا في أصل الاعتقاد بالله والإيمان برسالة محمد ( ص ) وبالقرآن الكريم "(11) .
د) كانت الملكة أروى - أسوة بالملوك السابقين للدولة الصليحية – تعتمد في حكمها لليمن على مبدأ الشورى ، ليس فقط في المسائل السياسية  المتعلقة بتسيير شؤون الدولة ، بل وبمسألة زواجها – بعد وفاة زوجها المكرم الصليحي – من منافسها الأوحد على السلطة في الدولة الصليحية ، وموافقة الخليفة الفاطمي في مصر على ذلك الزواج باعتباره الوسيلة الناجعة لاستمرار استقرار الأوضاع في اليمن . مما يؤكد هذا على أن الدولة الصليحية أعتمدت المذهب الشوروي القائم على مبدأ " وشاورهم في الأمر " ، باعتباره الركن الجوهري في سياستهم في اليمن .(12)
الجدير بالأهمية في هذا الصدد أن المهام الملقاة على عاتق الدار المحمدية الهمدانية للدراسات والأبحاث وكافة القوى الحديثة والنهضوية في اليمن ، يجب أن تنطلق من إدراكها بأن تجاوز القارة الأوروبية لعصور الظلام والفساد والاستبداد الفكري نحو النهضة والتقدم الاجتماعي والمواطنة المتساوية جاء بعد نضال عنيد خاضه المفكرين الإنسانيين من أجل سعادة الإنسان ورقيه ، من خلال إشاعة التسامح الديني ، الذي ترتب عليه في البداية القبول بالآخر والتعايش المشترك ، وتمهيداً للوصول إلى مبدأ تحقيق المواطنة المتساوية ، وهكذا ... ، لهذا وضعوا أولوياتهم من خلال كتابة وإعادة كتابة التاريخ الأوروبي ، الذي تم تشويهه وتزويره في العصور الوسطى ، وذلك من خلال كشف نقاط الضعف الذي علقت به ، مثل الأساطير والخرافات ، وإعداد دراسات علمية خاضعة لمعايير علمية ومنطقية وعقلانية مما شكل ذلك بداية فعلية لانتقال المجتمعات الأوروبية إلى نور الحداثة والتقدم الإقتصادي – الحضاري ، الذي مهد لها مواقع السيادة على مختلف بلدان العالم .
*الإسماعيليون ومشروع قانون العدالة الانتقالية :
تمثل العدالة الانتقالية الخيار الوحيد أو بعبارة أصح الوسيلة الأكثر فعالية لمعالجة أوضاع القوى المجتمعية التي عانت التهميش والإقصاء والتميـز الاقتصادي –  الاجتماعي في حقبـة الرئيس صالح .
وتقوم العدالة الانتقالية على عدة مناهج أولية لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية ، تمثلت الآلية الأولى في المحاكمات الواجب إجراءها ضد مرتكبي الجرائم ، الذين لم يخضعوا لقوانين العدالة الانتقالية . بينما جاءت الآلية الثانية من خلال الدور المهم والأساسي الذي تلعبه لجان الحقيقة والإنصاف في إرساء العدالة الانتقالية ، بفضل المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان والمدافعون عن الديمقراطية في مختلف بلدان العالم (13) .
وإذا كان شباب الثورة والقوى السياسية المختلفة في المجتمع اليمني قد اعترفت بضرورة معالجة القضايا المجتمعية المتعلقة بالقضية الجنوبية من جهة ، ومسألة الحوثيون في صعدة من جهة أخرى . نرى بأن من الضروري أن تعمل الهيئات السياسية والحقوقية المختلفة في اليمن ، على إدراج المسألة الإسماعيلية في قائمة القوى المجتمعية التي تحتاج لمعالجة حقيقية في إطار العدالة الانتقالية ، حتى تتمكن اليمن من تجاوز محنة الشمولية والاستبداد إلى حقبة جديدة تتسم بالتعددية وقبول الآخر والتداول السلمي للسلطة والديمقراطية الحقة التي تضمن احترام الحقوق الإنسانية للمواطنين أي بمعنى المواطنة المتساوية في عامة مناطق اليمن .
من هذا المنطق ، نعتقد أن الاعتراف بالمسألة الإسماعيلية من قبل كافة أطياف المجتمع يمثل المرحلة  الأولى في مسار تحقيق العدالة المجتمعية التي تكفل استقرار الأوضاع الاقتصادية – السياسية في إطار تطبيق العدالة الانتقالية .
الواقع أن التجسيد الواقعي للتغيير في اليمـن ، يتمثل في مشروع قانون العدالـة الانتقاليـة الذي أعدتــه حكومـة الوفاق الوطني في منتصف فبرايـر 2011 . ومن هنا فإن إدخال المسألـة الإسماعيلية في مشروع العدالة الانتقالية ، يقتضي من القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المختلفة أن تسلط الأضواء على حياة أبناء الطائفة الإسماعيلية ، وظروف القهر والتخلف وما رافقها من أساليب الإقصاء والتهميش الذي يئن من وطأته أبناءها . وكشف الستر أو الغموض الذي يكتنف ذلك . وتحديد الوسائل الشرعية والناجعة التي تقرها المبادئ الإنسانية للعدالة الانتقالية .
في السياق نفسه ، نرى بأن على القضاء العادل والنزيه أن يلعب دوراً مهماً في إنصاف الضحايا من خلال إحلال آليات العدالة الانتقالية القائمة على مبدأ تعويض الضحايا وجبر الأضرار من خلال رد الاعتبار معنوياً ، واستعادة ما فقد ، إن كان ذلك بالإمكان ، وإشاعة العدالة الاجتماعية بين أعضاء الطائفة الإسماعيلية – أسوه بالمكونات الاجتماعية الأخرى – من خلال الإصلاح المؤسـسي الذي يمثل الركن الأساسي في العدالة الانتقالية باعتباره يؤدي إلى اجتثاث كل أسباب الفساد والظلم ، وبالتالي تفادي وقوع انهيار حضاري أو ديمقراطي في المستقبل .
بيد أن الأولوية القصوى في هذا المضمار ، هو تهيئة المواطنين الإسماعيليين للانخراط بفعالية في مختلف الأجهزة الحكومية لاسيما الأجهزة الأمنية والعسكرية ، دون قيد أو شرط . باعتباره شرطاً جوهرياً في إقامة مجتمعاً يقوم على المواطنة المتساوية .


*رسالة إلى الحكومة اليمنية:
                                إن الظروف العصيبة التي تمر بها اليمن ، يفرض على حكومة الوفاق الوطني أن تعمل على استيعاب المسألة الإسماعيلية ، والعمل على معالجتها بما يحقق المواطنة المتساوية لأفرادها أسوة بالمكونات الاجتماعية الأخرى في اليمن التي تم الاعتراف بوقوع الضرر عليها في الحقبة الماضية ، وذلك من خلال إزالة كافة العوائق المتعلقة بذلك ، والتي تأتي في مقدمتها :
أولاً : الحد من الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء داخل المجتمع ، والقضاء على مظاهر الفقر المدقع الذي يعاني منه شريحة واسعة من الشعب لاسيما مواطنو منطقة حراز (معقل الطائفة ) . باعتبار ذلك يعمق الهوة الاجتماعية والفئوية في اليمن ، مع ما يترتب على ذلك من بروز أحقاد وضغائن وصراعات دموية ، وهذه العوامل بمجملها تمثل إعاقة حقيقية أمام أية جهود تسعى لتحقيق المواطنة المتساوية بين مختلف عناصر المجتمع على ارض الواقع .
ثانياً : بناء الدولة المدنية الحديثة التي تعتمد في إدارة شؤونها على المؤسـسات الدستورية التي تتخذ من الوسائل الديمقراطية منهجاً لها من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية داخل المجتمع . الأمر الذي يتطلب إزالة مراكز القوى القبلية والحزبية والمذهبية ، الذي أمتاز به عهد الرئيس صالح ، الذي تمكنت فيه العناصر المتنفذة في الدولة والمجتمع من نهب كل مقدرات الثروة الوطنية من جهة ، واحتكار مفاصل السلطة السياسية – الاجتماعية – الدينية من جهة أخرى لما يخدم مصالحها الأنانية ، وذلك من خلال إشاعة الفساد ، الذي يعتبر ركيزة أساسية في دعم اللامساواة بين عناصر المجتمع .
ثالثاً : تشجيع المبادئ الديمقراطية التي تسهم في إرساء القيم الإنسانية النبيلة ، مثل المواطنة المتساوية ، التي تعني القبول بالآخر ، والتعايش المشترك ، والمشاركـة الشعبيـة في الحياة السياسيـة ، وحق الشعب في تحديد خياراته الاقتصادية التي تمس حياته المعيشية ، والتداول السلمي للسلطة .
رابعاً : تقييم العملية التعليمية تقييماً وطنياً ، من خلال إعادة نظرها في الكادر التدريسي ، الذين شغل معظمهم وظائفهم من خلال إشاعة الفساد الإداري ، المتجسد في بيع الوظائف لمصلحة الأشخاص غير المؤهلين للوظيفة . وأن تتضمن المناهج الدراسية مفردات ثقافية – تعليمية ، تسهم في إرساء معالم الثقافة والقيم الوطنية ، وذلك من خلال الاعتراف بالخصوصية الثقافية لكل فئة من فئات المجتمع اليمني ، بما في ذلك القوى الإسماعيلية التي عانت من إلغاء خصوصيتها الثقافية – السياسية لحقبه زمنية طويلة ، من خلال إعطائهم حرية نسبية تسمح لهم بإقرار مفردات تعليمية بهدف التعريف بكيانهم التاريخي والسياسي بما يتواءم والفكر الوطني اليمني . وبالتالي بث الوعي الاجتماعي الحقوقي ، وتعميق الشعور بالمواطنة .
الجدير بالذكر في هذا الصدد إن المجتمع مطالب بإعادة النظر في ثقافته ، وسعيه المستمر في تجديد أعمدتها على قاعده عقدية وفكرية واضحة غير مضطربة ، ووسطية غير متطرفة ، تدفع باتجاه الرؤية الواضحة للمستقبل ، محطماً كل قوالب التحنيط الفكري ، والتفكير الماضوي ، والانشغال بمعارك الخلاف الفقهي ، لأن نسيان الزمن كارثة حضارية لابد من تجاوزها والنظر بجدية في أهمية المرحلة الحرجة التي تمر بها الأمة إذ في موقف الإنسان من الزمن ، تتحدد أحد معالم هويته ... فالمجتمعات التقليدية تمجد الماضي وتدور في ثناياه وتضاريس وجوده ، أما المجتمعات الحديثة فهي هذه التي تجد نفسها في اللحظات الآتية التي تقتضي من الإنسان الإبداع والمبادرة والمغامرة نحو آفاق إنسانية أكثر عمق وأصالة .فالمجتمعات التقليدية التي تمجد الماضي مجتمعات ساكنه (ستاتيكية ) أما المجتمعات التي تمجد المستقبل فهي مجتمعات (دينامية ) حرة ، وفي ضوء الاستشعار الاجتماعي وصحة النظام التربوي والتعليمي تتحدد الحاجة الضرورية لتجدد المفاهيم والمصطلحات الفكرية والثقافية ، بشرط أن يمس التجديد في عناصر الحراك الدائم قصد إعادتها للفعل الإيجابي ، سعياً لتحفيز الوعي بإتجاه المجتمع المدني التواق إلى تعددية الرأي واحترام حق الإختلاف والحفاظ على قداسة حقوق الإنسان وكرامته ، وعدم المساومة عليها أو التفريط بها لأنها من الثوابت التي لا تقبل القسمة أو الطرح المرتجل (14).
مما يؤكد هذا بأن البوابة الزمنية الحقيقية للانتقال إلى المواطنة المتساوية لابد لها أن تمض من خلال إصلاح وتقويم التربية والتعليم في بلادنا ، تقييماً وطنياً ، بما يحقق الحريات الفعلية لكل فئات المجتمع .
*رسالة إلى أبناء المذهب الإسماعيلي :
                                          أن نجاح فلسفة ومنهاج العدالة الانتقالية بين أفراد المجتمع الإسماعيلي ، يشترط تهيئتهم اجتماعياً ونفسياً للتفاعل مع الواقع الجديد ، الذي يفرض على أبناء المذهب الإسماعيلي الخروج عن نطاق الإحباط والتذمر والسلبية ، والمشاركة الواعية في تأسيس الدولة المدنية الجديدة ، التي يناضل شباب الثورة ومكوناتهم السياسية المختلفة لإقامتها على أنقاض النظام البائد الذي استمر أكثر من ثلاثة عقود .
ومن أجل إنجاح جهودنا المشروعة في مساعـدة أبنـاء المذهـب الإسماعيلي للانخراط في برنامـج العدالة الانتقالية نعتقد بأن على النخب المثقفـة في المجتمع اليمني أن تسهم في إماطة اللثام عن المعانـاة التي يعانـوا منهـا ، مـن خلال دعـم وتشجيع الإنتاج الفكري للباحثين في المجال الإسماعيلي والعمل على تطويره . وذلك بهدف تحسين الصورة النمطية عن المواطن الإسماعيلي في اليمن ، من خلال محاربة الأفكار والمعلومات والعادات الضارة التي تم نسبها إلى المذهب واتباعه .

الهوامش والحواشي
(1)نقلاً عن : د.ماجدة صالح : الآثار الإعلامية والثقافية للعولمة على دول المنطقة وإمكانية مواجهتها ، العولمة والوطن العربي ، مركز دراسات وبحوث الدول النامية ، مجلة قضايا التنمية ، العدد (23)، القاهرة ، 2002 ، ص233 .
(2)لا زالت معظم بلدان الوطن العربي عامة واليمن خاصة ، بعد قيام ربيع الثورات العربية ، بعيدة عن المطالبة بالحريات الفردية التي تتمتع بها أغلبية البلدان المتقدمة في العالم ، لأنها بحاجة ماسة لمدة زمنية قد تطول أو تقصر حسب الظروف التاريخية بكل بلد على حده ، لتجاوز حقبة الشمولية و الفساد والاستبداد التي عانت منها .
(3)انظر : د.علوي عمر مبلغ : الثقافة والمثقف النهضوي العربي ، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية ، المجلد الرابع ، العدد الثامن ، يوليو ، ديسمبر 2001 ، ص54-55 .
(4)أنظر : د. محمد صالح بلعفير : العلاقات المذهبية .. بين اليمن ومصر الفاطمية في عصر الدولتين الصليحية والزريعية (دراسة للمصادر المكتوبة والأثرية ) ، مجلة اليمن ، العدد (25) ، مركز البحوث والدراسات اليمنية ، جامعة عدن ، مايو 2007 ، ص123-125 .
(5)د.محمد كريم إبراهيم ، التطور العمراني لمدينة عدن خلال العصر الأيوبي ، مجلة سبأ ، العدد (5) ، عدن ، 1989 ، ص86 .
(6)لمزيد من المعلومات ، انظر : محمد بن علي مسفر عسيري : الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في اليمن في العصـر الأيوبي 569 – 626هـ ، دراسـات في شبـه الجزيرة العربيـة ،  - 1 - ، دار المدني ، جـدة ، بدون تاريـخ ، ص200 – 201 .
(7)د.عثمان موافي : منهج النقد التاريخي – الإسلامي والمنهج الأوروبي ، ملزمة مصورة ليس عليها بيانات أخرى ، ص 231 – 232 .
(8)حول هذا الموضوع ، انظـر : محمد بن عبد الرحمن السخـاوي : الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ، بيروت ، 1979 ، ص 7 – 11 .
(9)كانت حضرموت جزءاً من الدولة الصليحية ، أنظر : حسن فيض الله : الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن (268- 626هـ ) ، دار المختار للطباعة والنشر ، دمشق ، بدون تاريخ ، ص63 .
(10)عمارة اليمني ( نجم الدين ) : تاريـخ اليمن المسمى المفيـد في أخبار صنعاء وزبيد وشعراء ملوكها وأعيانها وأدبائها ، حققه وعلق عليه محمد بن علي الأكوع الحوالي ، الطبعـة الثالثة ، المكتبـة اليمنيـة للنشر والتوزيع ، صنعـاء ، 1985 ، ص84 – 85 .
(11)انظر ، د.هشام محسن السقاف : الإسماعيلية في الميزان ، مجلة سبأ ، إصدار قسمي التاريخ في كلية التربية ، وكلية الآداب ، العدد 10 – 11 \ يوليو 2007 ، جامعة عدن ، عدن ، ص 125 – 127 .
ومن دلالات الاعتدال والوسطية في النهج السياسي الاسماعيلي عند تأسيسهم لدولتهم في اليمن " إن خلفائهم ضربوا دنانيراً تحمل عبارات سنية تتفق من حيث الشكل والمضمون مع نمط السكة العباسية " . كما تشابهت العبارات المنقوشة على تلك الدنانير بين الاسماعيليين وبين القوى الأموية والعباسية ، ففي الوقت الذي نقش فيه على الدنانير الأموية – العباسية العبارة التالية : أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، نقش على الدينار الاسماعيلي عبارة " لإعزاز دين الله " .
كما يحدد المقريزي في كتابه الموعظ والاعتبار ... ، ج2 ، ص385 – 392 ، بأن الاسماعيليين عرفوا : " بالتسامح الديني مع أهل الذمة " . لمراجعة العبارات التي تم تنصيصها – أي الواقعة بين الأقواس - ، أنظر : د. محمد صالح بلعفير : السكوكات الفاطمية المحفوظة في متحف الآثار بعدن ، مجلة سبأ ، تصدرها أقسام التاريخ \ جامعة عدن ، العدد (12) ، يوليو 2003 ، ص102 ، 117 ، 123 .
(12)أنظر : الجزء الخاص بالدولة الصليحية في كتاب الدكتور عصام الدين عبد الرؤوف : اليمن في ظل الإسلام " منذ فجره حتى قيام دولة بني رسول " ، دار الفكر العربي ، ط1 ، 1982م .
(13)حول الآليات الأخرى للعدالة الانتقالية ، انظر دراستنا حول العدالة الانتقالية ، قيد النشر .
(14)د. أحمد غالب علي المغلس : التنمية الفكرية والثقافية في المجتمع ، مجلة التواصل ، صادرة عن دار جامعة للطباعة

ليست هناك تعليقات: