ورقة
عمل :عن الإسماعيليون في اليمن والحق في المواطنة المتساوية...
أ.أحمد عبده سيف
من
هم الإسماعيليون:
الحديث
عن الإسماعيليين وعر وصعب.. لأننا أمام ظاهرة وجماعة إنسانية فرضت لنفسها حضوراً
تاريخياً غير منكور.. وأبقت أثراً فكرياً لا يزال يستحث فضول المهتمين لفهم ما عرف
منه، والبحث عما خفي من كنوزه.
ولأننا
أمام "فرقة" أطلقت لنفسها عنان الحرية بالتفكير.. منذ أعتقدت بأسر العقل
العربي والإسلامي.. فوجدت نفسها محاصرة، ومتهمة، ومستهدفة، وبقت برغم ذلك مسكونة
بفضاءات التفلسف وغير متنكرة لما تدعيه يقيناً.. بل اعتمدت أساليب وقاية
"تقية" لم تكن متعللة بحاجتها إلى الأمن فقط، حتى وقد أرادت إقناعنا
بذلك، حيث نلمس لديها أكثر من حاجة ماسة لإقناع الأتباع والمريدين بصحة
اعتقاداتهم، وخياراتهم، وبالتالي حقهم بالاختلاف مع فرق كثيرة "سنية
وشيعية" كالصوفية والإثناعشرية والزيدية..الخ، ونلمس أيضاً حاجة أخرى للإجابة
على أسئلة، أو للرد على شبهات تتعلق بالإمام "الشخص" من حيث أحقيته
بالإمامة، وصحة نسبه...الخ.
ولم
تكن حاجتهم محصورة بمتطلبات مواجهاتهم مع السنة البيانيين، والمتصوفة العرفانيين،
أو مع الفرق الشيعية الأخرى التي تنازعهم أمر الإمامة والولاية.. بل تجاوزت ذلك لإقناع
أتباع الإسماعيلية بأحقية وراثة الولاية والإمامة بين المتنازعين من أبنائها
وأشياعهم، ولرغبة أخرى فرضتها أساليب التربية التنظيمية، وكانت مقاربة لما بات
معروفاً لدى كثير من الحزبيين المعاصرين اليوم، واتخذوه كقاعدة وتقليد تنظيمي
مفاده "لكل حسب موقعه، ولكل حسب حاجته".
وقد
اعتمد الإسماعيليون ذلك حتى عندما صارت دعوتهم علنية إبان الدولة الفاطمية بما عرف
"بالمراتب" ووظائفها أو بما عناه خصومهم من أن لديهم نظام متدرج من سبع
أو تسع درجات لتلقين الإسماعيلية تنتهي كما قالوا بالإلحاد والكفر.
وسيبقى الواجب مع فرقة الإسماعيلية.. بعد كل ما
عرف عنها وكتب.. يفرض سؤال محوري هو – من هم الإسماعيليون؟
وهي
وإن كان قدر لها وبها أن تنتج اختلافات كثيرة لم تنجو منها "كفرقة"، حيث
لم تسلم من الانقسامات.. فإن منطق الحق والعدل يفرض على من خالفها، أو أراد التعرف
والاقتراب من فكرها وتجاربها.. واجب التحري والبحث عما يرسم ملامحها العقائدية كما
هي.. لا كما يروج لها الآخرون.. وأن تناقش ويحاكم أفكارها وتجاربها بعقل مفتوح
يتمرد على سياط التعصب والإرهاب.. حتى يمكنه تحديد مواقفه وقناعاته على قاعدة
مبنية بالوعي المستنير، ودونما ادعاء امتلاك الحقيقة، واحتكار تمثيلها. يقول د.
عبدالرحمن الشجاع في مقدمة كتاب اسماعيلية اليمن السليمانية "المكارمة"
طبعة أولى صـ أ "تعد فرقة الإسماعيلية لغزاً مازال الباحثون يبحثون في غياهب
الخزائن عما يمكن أن يكشف عن خباياها الفكرية والتصورية، والسلوكية، والنشاطات
الحركية، والعقلية، عبر التاريخ، وخطـطها الظاهرة والخفية.. ومن غرائبها أن نجد
باحثين لا يؤمنون بدين.. يهيمون بها رغم أنها تحمل أفكاراً وبنية مناقضة لفكرهم
الإلحادي.
ولعل
من البديهي التوافق على أنها وقد مارست حقها بتأسيس قناعاتها وفقاً لمنهج التزمته،
ورؤية اقتنعت بها، ولم تسعى لإكراه الآخرين على التسليم بها، فإنها بذلك تلزم كل
من خالفها على تجنب إكراهها على قناعاته.
بل
بات لزاماً عليهم التعامل معها على ذات القاعدة، وبما يكرس قول الإمام علي
"كرم الله وجهه" الناس نوعان إما إخوة لك في العقيدة، أو مشابهين لك في
الخلق".
كما
إن من الدواعي التي تفرض السؤال السابق.. ما أحسبه ضرورات تدعو إلى تبين أسباب
إطلاق تسميات عديدة عليهم، وتمحيصها حتى نستبين خلفياتها المرجعية.. فيما إذا كانت
دينية خالصة ليس وراءها سوى ابتغاء وجه الله تعالى، أم سياسية تعبر عن مصالح
متنفعين وتكشف صغائرهم، أم تجمع بين المرجعيتين وتمزجهما رغبة باستخلاص خلطة كيدية
تملأ بها شروخ شك العامة من الناس.
وعندما
تتعدد التسميات التي أطلقت على الفرقة بالعموم، أو على جماعة منها "في
الأصل" ثم تعمم على الفرقة "بالوكالة" كالحشاشين مثلاً.. فإن على
كل من يريد الاقتراب من الفرقة أو من إحدى تجاربها أو فكرها أخذ الحذر حتى لا يكون
ضحية سلامة نيته.. وهو أمر لم يسلم منه الكثيرون ممن اهتموا بالكتابة عن
الإسماعيلين، ويقف في مقدمتهم من تحرروا من أعباء الخلافات المذهبية والدينية كبعض
المستشرقين الموضوعيين وعلى رأسهم "دوساسي" الذي نال أرفع أوسمة عهده،
وتقلد أرفع درجات أستاذية العلوم الشرقية، ووضع العديد من المؤلفات والدراسات
والمقالات حولها.. الخ، ومع ذلك وقع متأثراً بما لديه من مراجع عند دراسته في
سلالة الحشاشين فأنتج دراسة غير محايدة قال عنها "فرهارد دفتري" في كتابه
خرافة الحشاشين وأساطير الإسماعيليين صـ202، 203 "إن يسقط عالم بارز من صنف
دوساسي ومقدرته بسهولة.. ضحية تأثير توأم لحملة المخاصمين السنة المعادية
للإسماعيليين، وخيالات الصليبيين.. لهو أمر يذكرنا مرة أخرى بالكيفية التي تمت
فيها دراسة الإسماعيليين حتى أزمنة حديثة، وهي الدراسة التي اقتصرت على أساس وحيد
من أدلة جمعت أو وضعت من قبل أعدائهم، ومن قبل مراقبين جاهلين.." (الكتاب
ترجمة سيف الدين القصير، الطبعة الثانية، 2004، الناشر: المدى).
كما
إن الحاجة للتحري، والتزام الشك مع ما يقرأ ويسمع يصبح أكثر ضرورة إزاء أسماء
تجاوزت الحشاشين إلى "الباطنيين، المزدكيين، القرامطة، الملاحدة، ..الخ"
حيث نجد أخفها تضعهم في خانة الفاسقين الغير أسوياء، وأثقلها توصمهم بالكفر الغير
قابل للإستتابة.. لأنها أسماء بأحكام نافذة لا تجيز لعامة المسلمين وخاصتهم إلا
استلال السيوف من أغمادها، وتطهير المجتمعات منهم، وهو أمر مع إنه غير منطقي، فإنه
غير مجاز "عقدياً، وقانونياً، وأخلاقياً، وإنسانياً" فكيف يمكن إطلاق
لفظ أو تسمية ملاحدة على من يقول "بالتوحيد، ويؤمن بالله وملائكته ورسله،
وبالوحي، وباليوم الآخر".. وإن خالفوا السنة بما عداها بإضافة "كتبه،
القدر خيره وشره" وكيف يكون ملحداً من يأخذ في "فقهه" بالدليل
النقلي من الكتاب والسنة.. ولا يقبل بالدليل العقلي، ويخطئ من يقول بالرأي
والقياس، والاستحسان.
وكيف
يكون ملحداً من يلتزم بصيام شهر رمضان ثلاثون يوماً على الدوام ويكثر من الطاعات،
ويلتزم العبادات.. الخ. (راجع إسماعيلية اليمن السليمانية، صـ15، مرجع سابق).
وإن
كانت تسمية الملاحدة قد لحقتهم لأنهم عرفوا "كعرفانيين" فهم لم يكونوا
وحدهم من التزم هذا النهج.. حيث نعلم جميعاً بأن فرقاً عدة أخذت بالنهج العرفاني
لعل أشهرها من فرق السنة "الصوفية" ومن فرق الشيعة الأخرى الإثناعشرية..
فهل جميعهم ملاحدة؟!!.
وإن
كانوا جميعاً كذلك.. فلماذا وجدنا الإمام الغزالي الذي سبق أن قال عن نفسه
"وقد كان العطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، وريعان
عمري، غريزة وفطرة من الله تعالى" (انظر كتاب حرية الفكر وإبطالها في التاريخ
– لسلامة موسى – وزارة الثقافة بقطر 2012، ص92). ويقول عنه سلامة موسى صـ93
"كان أثره أنه قاوم الفلسفة حتى هدمها وكفّر جميع من يدرسها – وفي ص94 يقول
عنه – وقد عاش الغزالي بعد أرسطو طاليس بنحو 1400 سنة، ومع ذلك لم يبخل عليه
بالتكفير وعلى كل من أتبعه من فلاسفة المسلمين". ويقول الغزالي صـ95 من نفس
المصدر "وليتجنب المسلم صناعة النقش والصياغة، وتشييد البنيان بالجص، وجميع
ما تزخرف به الدنيا فكل ذلك كرهه ذوو الدين، وكذلك الصور أيضاً" وهو بعد أن
كتب مؤلفه تهافت الفلاسفة.. وجدناه بعد ذلك كله يعود لاستثناء الصوفية ويؤسلم ما
كتبوه.. بعد أن كانوا كافرين، بما يقر بأن النهج العرفاني للصوفية "مستثنى من
التكفير" ويبقى النهج العرفاني للآخرين "مكفّر"!.
ثم
وجدنا الفيلسوف الإسلامي ابن رشد في مؤلفه "تهافت التهافت" ينتصر
للفلاسفة والفلسفة ويرد فيه على الإمام الغزالي.. وهو من قال "إن الحقيقة
مزدوجة، بنظرة دينية، ونظرة علمية" فصار قوله هذا فلسفة تدرس. وبعيداً عن
الاسترسال في محاججة تلكم الأسماء "التهم" لأنها ليست في صلب موضوعنا ..
ولا نجد لها متسعاً من الوقت والمساحة. ولأني لست من يضع نفسه في موضع الدفاع عنهم
وعما يعتقدون.. فيبقى علي القول بأن ما أنزل بهم من تهم تحتاج إلى
"محاكمة"، وأن ما نزل ببعضهم من عقاب جماعي بالقتل أو بالحرق بعد
التجميع "سواء من السلاجقة أو المغول" لم يكن مفهوماً ولا مقبولاً، وأن
واجب الخروج من مناخات التفكير التكفيري هذه تستدعي إبانة الأسباب التي ساعدت على
تشويههم.
أسباب
ساعدت على التشويه:
وبرغم إيماني بأن الأقدر على بيان تلك
الأسباب هم الإسماعيليون أنفسهم من خلال مراجعات يجب أن تتم، أو أن تظهر إن كانت
قد تمت قبل الآن. فإني باجتهادي المبني على ما رسخ في الذاكرة.. أستطيع القول بأن
بين تلك الأسباب، أسباب ذاتية منها:
1)
أن عوامل وأسباب
الفرقة والاختلاف الداخلي.. فرضت عليهم إعادة ترتيب أولوياتهم، بما لم يمكنهم من
المنافحة، والمتابعة، والتصدي لكل ما وصموا به واتهموا فيه.
2)
إمعانهم
"بالتقيّة" والتستر والتخفي.. إما لتجنب الاستهداف من الدولة العباسية
وأتباع السلطة فيها، وإما لوجود ثغرات في أحقية من ورثوا الإمامة.. واستمرار
الاختلافات بين أتباع "الفرقة".
3)
عدم قدرة أبناء
الفرقة على رأب الأصداع المتكررة والتي أضرت بوحدة الصف.
4)
بروز رغبات لدى بعض
من وكلوا بالدعوة حتى قدموا مصالحهم على مصالح الدعوة.. إما استغلالاً للاختلاف
حول أحقية من يدعون له وإما رغبة بتأسيس ملك، أو ادعاء بأحقية تولي أمر الدعوة
ولمن تكون.
5)
عدم قدرتهم على
الدفاع عن عمليات "الفدائيين" وفرق الموت التي مارسها النزاريون..
باعتبار تلك الممارسات جزء من رد الفعل على الاضطهاد (مثلاً)، أو باعتبارها وسيلة
ثورية لبسط النفوذ والاستيلاء على السلطة؟!.
6)
وجود شطحات فكرية
فلسفية حالت دون بقاء إنتاجهم الفكري منشوراً إن صح قول أعدائهم في هذا
الأمر".
كما
كانت هناك أسباب موضوعية لعل من أهمها:-
1)
أن الفرقة تعرضت
لاستهداف لم يتوقف.. نتج بعضه عن اختلافات فقهية بين السنة والصوفية وبينهم وبين
الفرقة، ونتج بعضه عن اختلافات فقهية وتنازع أمر الولاية والإمامة ومرتبتهما
العقدية مع بعض فرق الشيعة، وخاصة من اتخذوا من العرفان مركباً ودليلاً.
2)
استمرار استهداف
الدولة العباسية لكل من خالفها ونازعها الملك والسلطة.. وخاصة الإسماعيليون بالخصوص
الذين تمكنوا من تأسيس دول عدة في مصر وشمال أفريقيا، وفي البحرين، وفي فارس
والشام.. الخ، وكذا استغلال تفرق طوائف الإسماعيلية وما عكسته بعض الممارسات الغير
مقبولة.. من التي مارستها طوائف القرامطة والنزاريون (مثلاً) مما أساءت
للإسماعيلية بالعموم ومنها الاعتداء على الحجاج، ونزع الحجر الأسود؟!، وإن صحت بعض
الممارسات كالتي كرسها "أمير البحرين الفارسي باعتباره المهدي"؟! وهو ما
ورد في كتابات ومؤلفات كتاب وعلماء السنة وبعض كتاب وعلماء الشيعة الإماميون
والإثناعشريون..
يقول
(دفتري/ في خلافات الحشاشين/ مرجع سابق صـ16 "فقد تسبب المناوئون المسلمون
بظهور خرافة سوداء عن الإسماعيلية.. تصورهم على إنهم فرقة ذات مؤسـسين مشكوك فيهم،
وطقوس من التلقين السرية المتدرجة التي تقود في النهاية إلى الفسق وإنكار كامل
الأديان".
ولم
يتصدى كتاب وعلماء الإسماعيلية لمثل هذه الكتابات، ولم يردوا عليها بما يبرئ ساحة
الفرقة.. حيث يقول (دفتري/ في خرافات.../ مرجع سابق صـ15 "كان المؤلفون
المسلمون قد وضعوا أساطيرهم الخاصة عن الإسماعيليين منذ وقت مبكر من القرن التاسع،
ولاسيما فيما يتعلق بأصول وأهداف الحركة، فالسنة كانت معلوماتهم ناقصة فيما يتعلق
بالانقسامات الداخلية للشيعة، ولم يتمكنوا من التمييز بين الإسماعيليين والقرامطة
المنشقين". ودعوني هنا أتحفظ أنا على المعلومات الناقصة.
3)
تعرض مكتباتهم
ومراجعهم للحرق والنهب، ودعوني أقرر بأني بما قدمت ربما لم أشمل كل الأسباب التي ساهمت بتشوية
الفرقة.. لكنها كانت محاولة وفي حدود المساحة المتاحة تحت عنوانها إن لم تكن قد
تجاوزتها.. ولي أمل استدراك ما لم أتمكن من ذكره خلال المناقشات.
ولأن
عنوان الفعالية "مبادرة الحق في المواطنة المتساوية – الإسماعيليون في
اليمن" وتأتي هذه الورقة في سياقها، فإن الواجب يدفعنا لأن ننئ عن الخوض في
مواضيع عقائد الإسماعيلية وفقههم العام والخاص.. وسيكون من اللازم أيضاً عدم تتبع
السيرة التاريخية للدعوة الإسماعيلية في اليمن "على أهميتها" لأننا لسنا
بصدد ذلك الآن. ومع ذلك فإن الحاجة تدعو لبيان بعض الملامح وإن لم تأتي بسياق
تاريخي متصل. وعليه فإن كانت الدعوة في اليمن قد عرفت بداياتها الأولى في العام
(903م) ثم تطورت على أيام الدولة الصليحية، ثم تحمل أعبائها الدعاة من بني الأنف
القرشيين، فإن دعاتها من (المكارمة) كانوا الأشهر لأن أكثر الدعاة
"المطلقين" كانوا منهم.. فكانوا لذلك يمثلون قمة الهرم السياسي للطائفة
الإسماعيلية السليمانية. حتى إن الطائفة تسمت بأسمهم (لدى أغلب اليمنيين).
وإن
كان قد اختلف في نسبهم ... فقد برزت شخصية الداعي (محمد بن فهد المكرمي) كأول
شخصية ذات مكانة في الأسرة.
إسماعيلية
نجران وبناء الدولة فيها:-
تجمع
أغلب المصادر على أن أول من انتقل إلى نجران منهم هو الداعية محمد بن إسماعيل
المكرمي في العام (1697م) على إثر خلاف حول المعتقد مع الإمام المهدي.. ومنذ
انتقاله أصبحت نجران مركز ثقل الدعوة ومنطلق قيادتها، وأصبح أهل نجران أنصار
الدعوة.. كما استطاع أن يستقل بحكم نجران عن حكم أئمة صعدة، وأصبحت (بدر) المركز
الديني المهم للطائفة.
وقد
امتلكوا مقومات إعلان دولة بمقاييس عصرهم، وتعددت مصادر إيراداتهم من
"الخمس" إلى ما كانوا يفرضونه وفقاً لأحكام فقهية يقرها مذهبهم في
مناسبات عدة، كما كانوا يفرضون الإتاوات على بعض الائمة وعلى حكام أبو عريش.
كما
إنهم ساسوا المكارمة أينما وجدوا "خارج نجران" من حراز إلى الهند والسند
وعراس.. الخ، وقد حكموا نجران لثلاثة قرون تقريباً.. ساسوا رعيتهم بما يحافظ على
وحدة القبيلة، حتى إن خرج بعض أبنائها عليهم.. لم يوقعوا بهم العقاب، ولعل مرجع ذلك
يعود إلى أنهم أساساً من أبناء قبائل همدان الصغرى ويعرفون قدر وأهمية العرف
القبلي.
كما
اتصفوا بالشجاعة وحسن القيادة في الحروب، كما عززوا سلطتهم بالولاء المذهبي، مع
اهتمامهم بتربية طائفتهم وأتباعهم بتعاليم مذهبهم.
ثم
إنهم اتبعوا أسلوباً بتعيين الدعاة.. يقوم على تعليم مخصوص يؤهل لتولي منصب الداعي
المطلق الذي يمارسها في النطاق الجغرافي للإسماعيلية السليمانية في (اليمن والهند
والسند) ويكون له نائب "منصوب" كما يتولى الداعية السلطة المالية
والقيادة العامة والخاصة.
ويتم
توليه بترشيح يقره إمام الستر، كما إنه منصب غير متوارث بحيث يمكن انتقاله حتى
خارج المكارمة، وقد ينتقل إلى الهند كما حدث مع غلام حسين الهندي الداعية (47).
علاقة
الإسماعيلية السليمانية بالأئمة:-
تباينت
بين علاقات تقارب المصالح والعداء.. فإن تقاربت المصالح ساد العلاقة الهدوء لكنها
بمجملها تكون مؤقتة ولا تستمر بسبب الاختلافات الفكرية العميقة وخاصة حول
(الإمامة) حتى إنهم أحاطوها بأحاديثهم، وتأويلاتهم للقرآن وجعلت ضمن المعتقد،
ورفعوا شأن الإمامة وجعلوها أعظم الواجبات الدينية عندهم.
"انظر
كتاب إسماعيلية اليمن – "سابق" ص151" ولذلك كان الصراع سياسياً، ثم
كان نتيجة لتصادم المصالح بسبب تجاور الأرض أو التنازع على أرض واحدة.
وقد
خفف من حدته وجود قبائل عديدة جمعتهم مع أطراف الصراع "الأنساب" من جهة،
ورغبة القبائل بعدم الخضوع الدائم لأي سلطة عدى سلطة القبيلة.
كما
جمع بين القبائل الأعراف التي لا تقر بعداء دائم ولا صداقة دائمة، كما تعارفت على
إمكانية قيام صراع خارج الحدود بسبب البسط على موارد رزق أو نهب أثناء الحروب ثم
تعود للتحكيم والصلح بالعرف القبلي.
وكانت
قبيلة (يام) جزء من حاشد مثلاً، والمراد قوله هنا بأن القبائل التي ربما كانت جزء
من الدولة الزيدية كانت بحكم "النكفة" قد تحارب دولها، كما حدث مع قبائل
همدان الصغرى الزيدية المذهب عندما شاركت جيرانها الإسماعيلية حروبهم ضد الأئمة.
الخلاصة:-
يمكننا
القول بأن الإسماعيلية السليمانية جاؤوا امتداداً لأسلافهم في الفكر والسياسة، وفي
انتهاج السرية، والعمل الدؤوب على إعادة مجد مضى.
وبانتقال
الداعية محمد بن إسماعيل المكرمي إلى نجران وضع اللبنات الأولى لبناء دولة قوية،
وقد استمر خلفائه بالحفاظ عليها، وأضافوا إلى سلطتهم في نجران كل مناطق أتباعهم في
اليمن "من التي كانت خاضعة لسلطة الائمة الزيديين"، ثم إنهم أصبحوا قوة
مرهوبة الجانب في الجزيرة العربية بسبب ما قدمته لهم قبيلة (يام) من تعزيز
لسلطتهم.
كما
مارس المكارمة الحماية والضغط على حكام أسرة الاشراف في المخلاف السليماني، وكانت
لهم علاقة صراعية مع الدولة السعودية الأولى.. تأكد لهم فيها زيادة القوة
والمهابة.
ولقد
تجلت قوتهم بسبب عوامل لعل أهمها:-
1-
فكر سياسي راعي تولية
الدعوة أكفاء أبناء الطائفة علماً وخبرةً بدون توريث.
2-
كان لأبناء الطائفة
انتماء قبلي ربطهم بقبائل حاشد وبكيل ويام.. الأمر الذي صعب على خصومهم القضاء
عليهم.
3-
إيمان عقدي قوي مكنهم
من مواجهة خصومهم بهمة عالية حققت لهم النصر في أغلب حالات الصراع وجولاتها، وقد
ساعدهم على ذلك ضعف خصومهم. "راجع إسماعيلية اليمن/ مرجع سابق"
وكما
كانت لهم أسباب قوة زادت من شوكتهم فإن
حالهم "كظاهرة إنسانية" لم يخلو من عوامل ضعف لعل أهمها:-
1)
خروج أكثر إسماعيلية
الهند عن السلطة الدينية والزمنية لدعاة اليمن نتيجة تنازع السيادة، وبالتالي
انقطاع الدعم المادي الذي كان يأتيهم من الهند والسند.
2)
ضغط القوى الخارجية
التي سعت للسيطرة على اليمن ومنها مناطقهم. كما إن خروج "حراز" عن سيادة
الدولة الزيدية، قد أقنع المكارمة بنقل مقر دعوتهم إلى حراز ليكون بمأمن من القوى
الخارجية، ولم تعد إلى نجران إلا بعد دخول الأتراك اليمن.
وبعض
النظر عن السنة التي انتهت فيها الزعامة السياسية للمكارمة كدولة.. فإنه من المهم
القول بأن الإسماعيلية السليمانية لازالت تحتفظ بزعامتها الروحية على الطائفة..
ولازال الدعاة المكارمة هم المسيطرون مع استثناءات قليلة عندما تولاها "إثنان
من بيت شبام" وأخرى تولاها "غلام حسن فرحات الهندي" لمدة سنة وسبعة
أشهر. وظل مركز الدعوة بنجران عدى فترات الاستثناءات.
وحتى
هذه الأيام لازالت الدعوة تحت رعاية الداعي الحالي "عبدالله بن محمد ابن
الحسن المكرمي" ومقره نجران، وهو الداعي (52)، وقد اختلف حوله.. حيث لم تقبل
به الأقلية من نجران وذلك لسببين هما:-
1)
أنه الداعي (52)
والمعتقد لديهم يقول بأن دعاة الستر (51) وبعدهم يظهر إمام الزمان.
2)
إنه الداعي الوحيد
الذي تولاها بدون وصية.
حالة
الإسماعيلية السليمانية (المكارمة) اليوم:
لابد
من الإشارة أولاً إلى اعتقادنا بأن الزعامة الروحية للطائفة لازالت واحدة
لإسماعيلية نجران واليمن، ولم يقع بين أيدينا ما يؤكد خلاف ذلك.
كما
يهمني التأكيد على أني لم أجد مراجع يمكنني استقاء ما ينبئ عن أحوال المكارمة في
اليمن.. وأن ما تجمع لدي من أخبار شفوية لا تنبئ بخير.
ولأن
حكام اليمن وخاصة في الثلاثة العقود الأخيرة كانوا يمثلون نظاماً أسرياً تابعاً
لإرادة حكام السعودية الواقعين بدورهم تحت تأثير وقيادة الولايات المتحدة وما تجسد
من مصالح الآخرين.. وبالتالي وقع النظام الأسري في صنعاء تحت تأثير كل الأطراف
التي لها مصالح في اليمن.
ولأن
للنظام السياسي في السعودية رؤية مذهبية (الوهابية) تسعى من خلالها لنشرها من جهة،
ومن جهة أخرى لزعامة العالمين العربي والإسلامي.
ولأن
منظمة "هيومن رايتس ووتش" وضعت في العام 2008م تقريراً عن حال
الإسماعيليين في نجران تحت عنوان "الإسماعيليون في نجران – مواطنون سعوديون
من الدرجة الثانية".
فإني
سأقتبس منه ما يهم لعرض الصورة التي أتمنى أن تكون مختلفة عن صورة المكارمة في
اليمن.. وآمل بذلك ألا أجافي الواقع كثيراً.
يقول
التقرير "بتصرف" أن الإسماعيليين دخلوا المملكة (خضعوا لسلطات المملكة)
منذ العام 1934م في أعقاب اتفاقية الطائف.. وأنهم حكموا حتى العام 1996م من اسرة
آل السديري، وأن الأمير مشعل بن سعود بن عبدالعزيز حكمهم بعد ذلك، واشتد باضطهادهم
وضيق عليهم دينياً.. بعد أن وعدهم جده الملك عبدالعزيز "باحترام خصوصيتهم
الدينية".
وأن
الحكومة قامت طوال الفترة الماضية بتعزيز وجودها في المنطقة، وأنها عمدت إلى نشر
المذهب الوهابي بين سكان نجران، وبنت المساجد السنية، والمدارس، وكرست المناهج
التعليمية التي لم تحترم خصوصياتهم، وتعرضت هويتهم للتهديد، وأصبحوا عرضة للتهميش،
وقلل المسئولون من شأن المذهب الشيعي الإسماعيلي، وعند اعتقال المئات منهم في
أعقاب أحداث فندق الهوليداي إن كانوا يتهمون "بالملحدين والكفرة".
وأن
هذا الاضطهاد شكل الخلفية الحقيقية للأحداث، وجاءت مسألة اقتحام جامعهم واعتقال
الأستاذ (الخياط) بدعوى استخدام السحر "كعذر فقط" وأنه مورس ضدهم التعذيب
عند التحقيقات، وتم إكراههم بالتوقيع على تهم لم يرتكبوها، وأنه حكم بالإعدام على
عدد (17) شخصاً وبالسجن مدى الحياة على "65 شخصاً" وأنهم لم يحصلوا على
نسخاً من الأحكام الصادرة بحقهم ليتسنى لهم "الاستئناف".
وأن
الحكومة لجأت إلى توطين مهجرين يمنيين "جنوبيين" بعد تطبيعهم على المذهب
الوهابي في مناطق الإسماعيليين، وقاموا بتوظيفهم هناك لإعادة نشر الوهابية بين
الإسماعيليين، كما تقوم الحكومة بعمليات النقل القسري للمسئولين الإسماعيليين إلى
خارج المنطقة.
كما
تحرم المملكة أصحاب الأرض من حقوقهم فيها في الوقت الذي تقوم فيه ببناء مدن
الإسكان المجاني عليها، وتوفير خدمات البلدية، وتوزع قطع الأرض على الوهابيين
سواءً اصبحوا مواطنين سعوديين أم لا على حساب أملاك الإسماعيليين.
كما
أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء المنبثقة عن مجلس كبار العلماء في
8/4/2007م فتوى تقول (بأن تسمية الدولة الفاطمية بهذا الاسم على اسم ابنة رسول
الله محمد (ص) تسمية كاذبة، لأن مؤسـسها أصله مجوسي وهو وسلفه كفار، فساق، فجار،
ملحدون، وزنادقة) وقد عكست هذه الفتوى على تفسير التاريخ الإسلامي.. الأمر
الذي لا يقلل من أهمية الفرقة الإسماعيلية فقط بل ويعرض أبنائها للخطر.
وقد
استعطف الإسماعيليون في 24/4/2007م بالشكوى لدى هيئة حقوق الإنسان بالمملكة
استنكروا فيها إبداء الريبة، وإعلان الإسماعيليين كفرة"، لكن الحكومة لم تتخذ
أي إجراء لمراجعة هذه الفتوى.
كما
تعمد بعض فقهاء الوهابية "كالحيدان" في محاضرة بالحرم في ليلة الإسراء
والمعراج 2006 تكفير الإسماعيلية.
ويتعارض
ما سبق مع ما طرحه المسئولين في الخارجية السعودية في العام 2003م الذين قالوا
حينها للجنة الأمم المتحدة المعنية بتقييم تقرير السعودية عن إجراءات مكافحة
التمييز العنصري "إن الحكومة استخدمت كل السبل التعليمية والثقافية ووسائل
الإعلام الموجودة من أجل تعزيز التسامح والقضاء على التمييز، وركزت الدوائر
الدينية والأكاديمية على مبادئ الإسلام الخاصة بحضر التمييز" (انظر تقرير
هيومن رايتس صـ38).
كما
يتعارض هذا مع الهدف الذي أعلنه الملك عبدالله بن عبدالعزيز في خطابه أمام مجلس
الشورى في ابريل 2007م عندما قال "إن هدفه هو الحفاظ على هذه الوحدة الوطنية،
وتعميق مضامينها، وإن تأجيج الصراعات المذهبية، وإحياء النعرات الإقليمية،
واستعلاء فئة من المجتمع على أخرى، يناقض مضامين الإسلام وسماحته، ويشكل تهديداً
للوحدة الوطنية، وأمن المجتمع والدولة". انظر التقرير السابق ص38.
كما
يتعمد أمير المنطقة أن يطلق على مساجدهم "معابد"، ويتم استبعادهم عن
المشاركة بالشأن العام حتى إنهم منعوا من استقبال الملك عبدالله عند زيارته
المنطقة.
كما
يمارس عليهم التمييز في التعليم والعمل، وفي المحاكم حتى إن محاميهم يمنعوا من
السماح لهم بمزاولة أعمالهم كما يمارس التمييز على سجنائهم.
ولما
كان تأثير حكام المملكة على نظام الأسرة في اليمن خلال العقود الثلاثة الماضية
كبيراً، فإن علاقة إسماعيليي اليمن بسلطات الحكم قد لا تكون بهذا القدر من القسوة
والتمييز.. لكنها لم تخلوا من الابتزاز والعزل. جاء في الورقة المقدمة من الدار
المحمدية الهمدانية للدراسات والأبحاث عن خلفية مشروع "التخطيط الاستراتيجي
لمبادرة الحق في المواطنة المتساوية – الإسماعيليون في اليمن 2012-2016م"
"بالرغم من تحسن العلاقات بعد الثورة مع دعاة المذهب "السلطان محمد
برهان الدين" وإتاحة النظام لهم زيارة أضرحة الدعاة، وإقامة سننهم، إلا أن
النظام السياسي قد عمل بصورة غير واضحة على الإساءة للمذهب وأتباعه. وما سماحه
لأتباع المذهب بممارسة ما سبق إلا للفوائد المادية (مالية وعينية) التي كانت تمنح
له من قبل سلطان البهرة. وانتعاش السياحة في اليمن".
كما
إن النظام الأسري في اليمن بإقدامه (اللامشروع) على تسوية ملف الحدود مع المملكة،
وفيه تنازل عن حقوق اليمن الثابتة بنجران (المثبتة في اتفاقية الطائف.. لم يراعي
خصوصية سكان المنطقة ويطلب من السعودية مراعاة تلك الخصوصية.. بل بدى وكأنه تخلص
من عبء لم يتحمل تبعاته قط؟!.. ولاحظنا زيادة اضطهاد السلطات السعودية لأبناء
الطائفة في الفترة التي أعقبت تسوية قضية الحدود، بما يوحي بدور مشبوه للأسرة
الحاكمة في اليمن، وبعدم احترامها والسلطة السعودية لحقوق الإنسان ولكل ما تضمنته
التشريعات الوطنية والدولية بهذا الخصوص. وبذات القدر الذي برهنت فيه سلطتا
البلدين على عدم اعترافهما بحقوق شعبنا الثابتة في نجران وفي كل الأراضي التي سرقت
على امتداد الحدود الفاصلة بين البلدين "وتلك قضية أخرى لا يسمح الزمن ولا
الحيز المتاح ولا المناسبة بتناولها بالقدر والمستوى المطلوبين, ويكفينا هنا
التأكيد على أن كل ما استحدث في ملف هذه القضية نعتبره باطلاً وأن أراضي اليمن غير
قابلة للإستلحاق (بالدولة/ الأسرة) وأن هذا النظام يحتاج لتنازل موقع من كل يمني
ويمنية ممن كانوا عائشين عند توقيع التسوية في العام 1996م ومن جاءوا بعدهم وحتى
يرث الله الأرض وما عليها".
كما
إن (النظام الأسري الذي ثرنا عليه أخيراً) لا تقف مسئوليته عند حدود تفريطه بأمانة
ومراكمة ثروة زادت بما قبضه من رشوة من النظام السعودي نتيجة ذلك.. بل لأنه اصبح
شريكاً بكل الجرائم التي تقترف بحق إخواننا الإسماعيليين في نجران، بما في ذلك
تهمة التحريض على "الإبادة الجماعية" المترتبة على الفتاوى التي تمت
الإشارة إليها سابقاً.. حيث إن وصم الإسماعيليين بالكفر، يحمل مخاطر الإبادة خاصة
وأنه لم يصدر حتى الآن من ذات (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء المنبثقة عن
مجلس كبار العلماء.. ما يؤكد على خطأ الفتوى السابقة، ويبدي الأسف والاعتذار عما
بدا فيها من شطـط وزلل..
ولم يعقب ذلك ما يصحح مواقف الدولة والمراجع الدينية والمجتمع لتلك الأخطاء، ويحسن
أوضاع وحقوق إسماعيليي نجران بما يتوافق مع قيم الدين الحنيف، وما التزمت به
الدولة من تشريعات دولية ترتبت على عضويتها في الأمم المتحدة والأجهزة التابعة
لها.. الخ.
الحاجة
للحديث عن الحق في المواطنة المتساوية:
أؤمن
كالجميع بأن كل حق يترتب عليه واجب أو أكثر.. ولكني أود هنا أولاً أن أقر بأني لم أكن أتصور يوماً أن تأتي علي لحظة أكون
فيها مضطراً لمناقشة الحق بالمواطنة المتساوية لأي من مكونات المجتمع.. وذلك
لقناعة لدي بأن هذا الأمر مما يجب ألا يكون محل خلاف.
لكن
أسباب القهر المركب، وصور ومظاهر سحق الآدمية التي كرستها سلطة الفساد خاصة خلال أكثر
من ثلاثة عقود مضت.. أبرزت ثغرات كثيرة وأبقت ندوباً متعددة بعد أن تجرعنا مرارات
ذل الحاجة، وعذاب الاستعباد، وتصفدت قوانا الحية والكامنة برحلة تيه في فضاء
انعدام الوزن، وسكننا الخوف من هتك الكرامة إذا لم نؤمن ما نطلبه أو نطالب به من
الاحتياجات الأساسية البيولوجية.. وهو خوف لم يبقي لدى الأغلب الأعم من المجتمع أي
مساحة للاهتمام بالشأن العام "إلا لدى من رحم ربي" ونتج عن ذلك حالة
تسيب وطلاق "بائن" بين الفرد وما يستحق من حقوق المواطنة، وحالة فك
ارتباط بين ما يترتب على حقوقه تلك وانتمائه الاجتماعي من واجبات وبين تحفزه
لأدائها طواعية بالكفاءة المناسبة.
ولما
قرر شعبنا أخيراً استعادة إرادته، وإعادة صياغة نظامه السياسي، وترميم وإعادة
تأسيس علاقته بمؤسـساته المختلفة، وجدت لدينا حاجة كان الآباء قد نشدوا التأكيد
عليها، وأملوا أن تتحول إلى ثقافة لا تقبل الانتقاص.. وإذ بنا نجد ما نشدوه لم
يتحقق، وما حققوه بتضحياتهم أفرغ من محتواه واستلب، وإن حاجتنا اليوم أشد من أي
وقت مضى إلى إعادة تثبيت هذا الحق وصيانته، وحمايته وتحصينه. وسيبقى أمر تحققه،
ودلالات وجوده مرهون بضمان شموله لكل أبناء المجتمع باختلاف تبايناتهم النوعية
(ذكوراً وإناثاً)، والطبقية والسياسية، والمذهبية، والدينية..الخ.
وستكون
الحالة الإسماعيلية أحد أبرز العناوين بما لها من خصوصية مذهبية تتربص بها ودون
غيرها من الأقليات الدينية والمذهبية ثقافة (غازية تكفيرية) تتخذ من الدين لبوساً
غير ساتر لعورات المصالح الإقليمية التي ما أرادت يوماً لمجتمعنا وللأمة خيراً،
ولا راعت فيهما إلاً ولا ذمة.. كما وتتماهى وتتقاطع مصالحها مع مصالح عولمية باتت
أكثر شرهاً وطمعاً في تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ، لضمان استمرار مصالحها سواءً
باستمرار نهب خيراتنا، أو بمنع وحدتنا وإبقاء اقتصاداتنا مجزأة وتابعة.. حتى وقد
استرهنت فوائض الدخل النفطي الذي لم تقوى بعد على نهبه في بنوك ومؤسـسات أعداء
الأمة ترمم به تصدعات اقتصاداتها المتداعية من جهة، ومن جهة أخرى لضمان أمن
إسرائيل وتفوقها مع اصطناع خلل في وعي الأمة عبر إغراقها في فتن مذهبية وابتداع
أعداء من داخل الملة تصوب الأمة عليه وتنسى أعدائها الحقيقيين "الولايات
المتحدة – إسرائيل – أنظمة القهر والخنوع – التجزئة – الأمية – التخلف".
ولأننا
أبناء أمة أعزها الله عز وجل بالإسلام، وكان من صنيعه معها أن بعث منها النبي
الخاتم، وكذلك جعل رسالته فيها.. فإن الحق في المواطنة المتساوية ومنا
الإسماعيليون مكفول دينياً.. سواءً سلمنا جميعاً بأن الإسماعيليين مسلمون موحدون،
أو أصر البعض على ما ينتقص منهم باختراع ما يسيء إليهم (كالسلفية التكفيرية) التي
يرد عليها د. محمد سعيد البوطي في كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب
إسلامي" صادر عن دار الفكر دمشق – ص258 "إننا لا نريد من هؤلاء الإخوة
أن يتخلوا عن آرائهم الاجتهادية التي اقتنعوا بها.. ولكنا نذكرهم بأن عليهم ألا
يجعلوا من آرائهم هذه مظهراً للدين الحق الذي لا محيد عنه إلا إلى الكفر والشرك
والضلال. بل عليهم وقد علمنا أنها مسائل اجتهادية.. أن يتنبهوا إلى أن المسلمين
يسعهم أن يأخذوا في هذه المسائل وأمثالها بما قد يهديهم اجتهادهم.. ضمن دائرة
النهج المرسوم لهم جميعاً. ولا عليهم أن يتفقوا في تثبيت اجتهاداتهم هذه أو
يختلفوا فيها، فكلهم مقبول بفضل الله ورحمته ومأجور".
وإني
أقرر بيقين بأنه ما من شرعة إنسانية استطاعت الإحاطة بحقوق الإنسان ودعت إلى
صيانتها وحمايتها كديننا الحنيف ومنها ما يتجسد أو يستدل عليه من خلال الكثير من
الآيات القرآنية التي تصون حق الحياة، والكرامة الإنسانية، وتؤكد حق الحرية في
الاعتقاد والاختيار، وتدعو لنصرة المظلوم ومقاومة الظلم والظالمين.. الخ، ومنها
قوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر.. الآية (70)
الإسراء، وقوله "ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة.. الآية" "إنك لا تهدي
من أحببت... الآية" "ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله
عليماً حكيماً ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً
مبيناً. النساء الآية 111، 112" "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
وقوله تعالى "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين.. الآية – النساء
97" صدق الله العظيم.
وجاء
في الحديث القدسي "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا
تظالموا، وجاءت سنة الرسول محمد (ص) تؤكد على تلك الحقوق ومنها قوله (ص) "كل
المسلم على المسلم حرام.. الحديث" وقوله "خيركم من يرجى خيره، ويؤمن
شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره" صدق رسول الله (ص).
وليس
بيننا من يجهل كيف تعامل رسول الله (ص) مع جاره اليهودي حتى كان أسلوب تعامله ووده
وسؤاله عنه في مرضه سبباً بإسلامه. ونعلم كيف ضمن الإسلام العدل عند التقاضي حتى
مع غير المسلمين.
كما
يعتبر الدكتور محمد عمارة في كتابه "الإسلام وحقوق الإنسان – ضرورات لا حقوق
– مكتبة بستان المعرفة، طبعة أولى 2005م، ص15 "إن الإسلام نظر لحقوق الإنسان
ليس كحقوق أساسية فقط، ولكن كضرورات (وواجبات) فالمأكل والملبس والمسكن، والأمن،
والحرية في الفكر والاعتقاد، والتعبير والعلم والتعليم، والمشاركة في صياغة النظام
العام، والمراقبة والمحاسبة لأولياء الأمور، والثورة لتغيير نظم الظلم أو الجور
والفسق والفساد...الخ".
كما
يقول الإمام الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد "إن نظام الدين لا يحصل
إلا بنظام الدنيا".
كما
نعلم بأن الإسلام أقر أخذ الجزية من غير المسلم (وكفل) له بالمقابل كل حقوق
المواطنة فوق حق الحياة وحق الأمن والحماية وحرية الاعتقاد، وممارسة الطقوس، وحرية
التعبير والتفكير والتفاعل مع المجتمع، والعدل، والمساواة أمام القانون، والرعاية
عند العجز...الخ.
وإن
كان ما تقدم يغنينا عن التذكير بكل ما تضمنته الشرائع الوطنية والدولية على تعددها
من تأصيل حقوقي.. تجنباً للإطالة في بيان حقوق يجب ألا تكون منكورة.. فهل ذلك يكفي
لبيان هذا الحق وصيانته، وحمايته وتحصينه؟ أم إننا نحتاج أيضاً إلى تبين مظاهر
سلوكنا، وبواطن قناعاتنا ومواقفنا ومقاربة ذلك كله مع موجبات تجسيد هذا الحق في
الثقافة والسلوك؟ وهل لولاة الأمر واجب؟ وما أهمية ذلك؟
وإني
لأجزم مطمئناً بأننا بأمس الحاجة إلى مقاربة أفكارنا وقناعاتنا ومواقفنا وسلوكنا
مع موجبات تجسيد هذا الحق وغيره وألا نتماهى مع من يحرض ويدعو للانقسام المذهبي
والطائفي وغيرها من "طواعين" الصهيونية والاستعمار وأقزام التبعية
وأعداء الشعوب والحياة.. ممن لا يريدون لنا الخير والفلاح، ويسعون حثيثاً لإبقائنا
متفرقين، متخلفين.. لأن سعادتهم ورفاهيتهم مشروطة بدوام شقائنا واختلافنا وتخلفنا.
قال
فهمي هويدي في كتابه "أزمة الوعي الديني/ دار الحكمة اليمانية/ طبعة أولى/
ص185/ تحت عنوان حدث في صنعاء" باسم الدفاع عن العقيدة، وتنقيتها من البدع
والضلالات.. تربي تلك المدرسة أجيالاً من الشباب تشغلهم عورات الناس وأشكالهم،
بينما لا يعرفون شيئاً عن هموم الأمة ولا حقوق الناس.. وإطلاق اللحي عندهم أهم من
إطلاق الحريات، وتحرير الناس من زيارة القبور أولى من تحرير الوطن من المحتلين
والغاصبين، واتباع السلف أجدى من ابتداع الخلف، ومكافحة الصوفية خير من مكافحة
الجفاف والجراد".
وكل
ما ذكره الأستاذ فهمي هويدي فيما سبق وغيره من خلال مشاهداته أثناء زيارته لليمن
ليؤكد على أهمية تغيير مناخات التفكير، والنأي عن التكفير والاختلاف، والبحث عن
المشتركات بدون وصاية..الخ، كما إن استمراره بعد عقود من جهود شارك فيها الجامع
الأزهر برمزيته في مسألة التقريب بين المذاهب، وصدور فتاوى عديدة تبرئ من كفر من
تهم الضلالة، وما كان للإمام حسن البناء من موقف لافت في إثر إثارة خلاف أمامه بين
السنة والشيعة فرد بالقول "عندما يظهر الإمام الغائب فسنكون أول من
يبايعه" أزمة الوعي الديني... مرجع سابق، ص288.
أقول
بأن استمرار ذلك يجعل المجتمع وولاته مأثومين من جهة.. ومن جهة أخرى يجعل أعداءنا
وأعداء الأمة مطمئنين على مصالحهم وعلى صلاحية استمرار مؤامراتهم البالية.. لأننا
لازلنا قابلين للاستغفال وغير مستحقين لجدارة الحياة، وليسوا مضطرين لحياكة
مؤامرات جديدة.
قال
الإمام الغزالي في كتابه "مشكلات في طريق الحياة الإسلامية" إن تخلف
العالم الإسلامي يهدد كلمة التوحيد فيه، وإن الاستبداد السياسي يتحمل مسئولية
أكيدة في هذا التخلف.. ولا يعفى من ذلك "المتحدثون في الدين" الذين
شغلوا أنفسهم بالبحوث الكلامية الغيبية، والفروع الفقهية الوهمية، والكراسات التي
حفلت بحشو لا آخر له، ثم عدت ذلك كله .. العلم الذي لا علم معه" صـ65.
كما
قال الإمام الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة صـ255"
"على ولي الأمر في الجماعة الإسلامية المهيمن على مصالحها وتوجيهها، أن يعمل
جهده بما يحقق للأمة الانتفاع بمواردها كلها.. فلا يجد الأجنبي باباً للتدخل في
شؤونها إلا بقدر ما يحتاج هو إليها من طرق التبادل العام الذي يقع بين الناس،
وبتقصيره يكون آثماً، وكانت الأمة معه آثمة".
كما
إن من واجبات ولاة الأمر، والمؤسـسات المجتمعية المختلفة أن تهتم بعقلنة الخلاف،
وأن تسعى جهدها، وتبذل سعيها لدوام إعادة تشكيل اهتمامات الرأي العام، وحركة
المجتمع باتجاه توحيد الجهود، ورص الصفوف وحشد الإمكانات، وتوظيف القدرات.. سعياً
لمواجهة أعداء الأمة والدين "الولايات المتحدة، وإسرائيل، وأنظمة وأجهزة
القمع والتبعية، والتجزئة والأمية والتخلف" ورفض وتعرية كل جهد مخالف يسعى
لتبديل عداواتنا وأعدائنا بعداوات مفتعلة، وأعداء غير حقيقيين.
ولنجعل
من تبايناتنا واختلافاتنا في الفروع وغيرها مصادر غنى، وأسباب لقاء، وعوامل قوة
نستفيد منها ونفيد.
وليكن
واجب المقاربة كما ذكرت سابقاً، وواجب التمكين للأقليات في مجتمعنا وأمتنا.. براءة
للذمم، وطلباً للأخذ بالأسباب والعمل بها.. لأنها واجبات لا تستجيب للزوميات
الإقرار بالتوحيد والعبودية فقط، بل تتطلبها دواعي حاجة الجميع لتوفير مناخات
عمارة الأرض، ومقاومة الظلم، والحاجة لتحقيق السعادة والرضى، واحترام الذات،
وتوفير فرص التنمية، والتمكين للأجيال القادمة، واستهدافاً للمساهمة ببناء الحضارة
الإنسانية.
كما
إن التمكين للأقليات يجب ألا يفهم بأنه محصور في إطار احترامنا لحقهم بالحياة
والحرية والشراكة...الخ.
فعدم
الاختلاف، ورفض استجرار أسباب الصراع المفتعل، توفر جهود وإمكانيات، وزمن، وقدرات
يحسن بنا توظيفها بما يرضي الله، وينفع الناس، بدل إهدارها باستجلاب غضب الله
والملائكة والناس أجمعين.
قال
تعالى: (لا إكره في الدين قد تبين الرشد من الغي – البقرة 256" "واتقوا
فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة – الأنفال/ 25" "فمن اهتدى فإنما
يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها – يونس/108"، "من عمل صالحاً
فلنفسه، ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون- الجاثية/15".
ويبقى
على الأقليات في المجتمع والأمة ومنهم الإسماعيليون واجبات كثيرة لعل من أهمها:-
1-
تحطيم تابوهات
"التقية" والعزلة، والشعور بالدونية.
2-
واجبات التعبير عن
هوياتهم العقدية والتعريف بها ومنح الدارسين والباحثين إمكانية الاطلاع على كتبهم
ومراجعهم، وتصحيح ما لامسها من شبهات ومثالب وكذا الحال فيما يتعلق بتاريخهم
وتجاربهم.
3-
واجبات السعي لتحقيق
الاندماج الاجتماعي بكل متطلبات المشاركة اللازمة لبناء دولة ومجتمع مدنيين تستقيم
بهما ومعهما الحياة.
4-
واجبات عدم السكوت عن
المظلمات ومنها ما وقعت وتقع على إسماعيليي "نجران" ولهم حق تكافل
المجتمع والأمة في مقاومتها وتجاوز آثارها.
5-
واجبات توظيف الجهود
والطاقات والقدرات، والمدخرات في المجرى العام لخيارات الأمة.. ابتغاء لرضا الله
ومحبته، وليكون لنا بعدها حق الدعاء "اللهم إنا نطلب نصرك ورضاك، وأنت تعلم
بأنا بذلنا ما لدينا، فأرنا وهب لنا مما لديك".
وسيبقى
على الجميع بعد كل ما تقدم الكثير مما يتوجب عمله ومنها المبادرة للمساهمة ببناء
الدولة والمجتمع "المدنيين" وتتوقف فعالية دور الفرد والجماعات على
مقدار الوعي بالحقوق وصيانتها والدفاع عنها وبالواجبات وكيف تؤدى بالمبادرة
الطوعية وبأفضل مستويات الأداء.
كما
سيكون مطلوباً التنبه للمخاطر القائمة والمتوقعة، لأن المعركة معركة صراع إرادات،
ومن متطلبات الصمود والمقاومة، والسعي للنصر تحديد الإعاقات والمشكلات وإعادة
ترتيبها وفق سلم أولويات المجتمع والأمة، مربوطة بحجم ما يمكن توفيره من قدرات
وإمكانات وقوى يمكن حشدها لمواجهة متطلبات التنمية، وتعميق التجربة الديمقراطية،
وتحصين النظام والمجتمع من كل الاستهدافات..الخ.
وسيدرك
الجميع بأن المدخل الحقيقي لدمقرطة الدولة والمجتمع، والأخذ بأسباب التنمية، لا
تمر إلا عبر إعادة بناء المواطن حتى يكون مستنيراً، وذلك لن يكون إلا بعد إعادة
النظر بإشكاليات التعليم حتى يكون برؤية استثمارية، مطلوب لها فلسفة تربوية
وتعليمية ترتقي لمستوى طموحات المجتمع والأمة، تتضمن الشروط والمواصفات المطلوبة
لبناء الإنسان العربي الفاعل والمستنير، وأن تكون مقرة مجتمعياً، وتبقى بمنأى عن
نزعات التجاوز والتعديل التي قد تأتي خدمة لمصالح من يتولى ويحكم، ولا تسمح
بالتعديل والتطوير إلا وفق رؤية وشروط وآلية يقرها المجتمع، وبـما يكفل لها فعالية
إنتاج ثقافة المقاومة...الخ.
أعلم
بأن عرض فكرة إنتاج الفلسفة التربوية لم يكن كافياً ومستوفياً وكانت تحتاج إلى
مساحة أكبر لكن للضرورة حكمها، ولعل المداولات تسمح بتناولها بصورة أفضل.
أتمنى
ألا أكون قد أطلت.. وأن أكون قد وفقت.. وأشكر من تسبب وهيأ لهذا اللقاء.. وأعتذر
عن كل قصور لمس في هذه الورقة.
والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
أحمد
عبده سيف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق