الأربعاء، 5 نوفمبر 2025

قراءة في بحث: ( مكتبة في مجلد واحد – دفتر ملاحظات العالم الإسماعيلي في القرن التاسع عشر سيدي محمد علي الهمداني من سورات -للباحثة/ فيرينا كليم - الأكاديمية السكسونية للعلوم والإنسانيات، لايبزغ، ألمانيا)

 

بقلم:

د. عمرو معديكرب حسين الهمداني

رئيس المجلس العلمي للدار المحمدية الهمدانية للدراسات والأبحاث

تقديم

يُمثّل هذا البحث دراسة تحليلية لمخطوطة فريدة من نوعها في التراث الإسماعيلي، هي دفتر ملاحظات العالم سيدي محمد علي الهمداني (1833–1898)، أحد أبرز علماء ودعاة البهرة الطيبية في القرن التاسع عشر. تكمن أهمية هذه المخطوطة في طبيعتها الموسوعية؛ إذ تجمع بين نصوص دينية وتاريخية وفلسفية وعلمية وأدبية، ما يجعلها مرآةً تعكس تعددية المعرفة لدى صاحبها، وتكشف في الوقت ذاته عن العمق الفكري والثقافي للمجتمع البهري في الهند خلال تلك الحقبة.

يسعى هذا البحث إلى تقديم قراءة علمية متكاملة للدفتر من حيث سياقه التاريخي والمادي والمضموني، مبرزًا قيمته كمصدر أولي يضيء أبعاد الفكر الإسماعيلي الحديث، ويكشف عن طبيعة التفاعل بين العلوم النقلية والعقلية في البيئة الإسماعيلية الكجراتية. كما يُبرز الدراسة الدور المحوري الذي أدّاه الهمداني في تكوين مكتبة عائلية علمية شكّلت نواةً للحفاظ على تراث الدعوة الطيبية وتطوير خطابها الديني والفكري، وهو الدور الذي يستمر أثره في الدراسات المعاصرة المهتمة بالفكر الفاطمي والبهري.

يتميّز البحث بمنهجه المقارن، إذ يضع المخطوطة في إطارها الثقافي ضمن تاريخ المكتبات الإسماعيلية، ويستفيد من المقاربات الحديثة في دراسة النصوص العربية-الهندية، ليقدّم رؤية جديدة حول إنتاج المعرفة في السياقات ما بعد الفاطمية. ويكشف البحث كذلك عن الجهود الذاتية للهمداني في جمع النصوص ونسخها وتدوين تعليقاته عليها، بوصفه شاهدًا على استمرارية المشروع العلمي والدعوي للإسماعيلية الطيبية في القرن التاسع عشر.

إن إعادة تقديم هذه المخطوطة إلى المجال الأكاديمي لا تُسهم فقط في إثراء المكتبة الإسماعيلية الحديثة، بل تُعد خطوة مهمة نحو فهم أعمق لآليات حفظ وتوارث المعرفة الدينية في البيئات الإسماعيلية، وللدور الذي أدّاه العلماء في نقل التراث من الإطار المحلي إلى الفضاء العالمي. ومن هذا المنطلق، فإن هذا البحث لا يُعنى بمجرد تحقيق نصٍّ تاريخي، بل بتأصيل وقراءة حضارية لوعيٍ فكري ظلّ فاعلاً في الذاكرة الإسماعيلية عبر الأجيال.

خلفية البحث وأهدافه

تنبع خلفية هذا البحث من الحاجة الملحّة إلى إعادة قراءة المصادر الأولية للفكر الإسماعيلي في الهند خلال القرن التاسع عشر، وهي مرحلة تمثّل نقطة تحوّل في التاريخ الثقافي للدعوة الطيبية البهريّة بين التقليد والتجديد. ففي ظلّ التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة، برزت ظاهرة تدوين المعارف في دفاتر شخصية، كانت بمثابة مستودعات فكرية تضم خلاصات علومٍ متنوعة ومقتطفات من التراثين الإسلامي والعالمي. ويأتي دفتر ملاحظات سيدي محمد علي الهمداني مثالًا بارزًا على هذا النمط من الإنتاج المعرفي، حيث يكشف عن ملامح ذهنية موسوعية جمعت بين الاهتمام بالنص الديني، والانفتاح على الفلسفة، والعلوم الطبيعية، والآداب.

ومن هذا المنطلق، يهدف البحث إلى:

1.                       تحليل محتوى دفتر الملاحظات للكشف عن بنية التفكير العلمي والديني لدى الهمداني، وطرائق تعامله مع النصوص المقتبسة وتفسيراته الخاصة لها.

2.                       تحديد موقع الهمداني في السياق التاريخي للمدرسة الإسماعيلية البهريّة، وإبراز دوره في صون التراث الفاطمي ونقله عبر الأجيال.

3.                       دراسة الدفتر من منظور مادي وفيلولوجي، يشمل وصف المخطوطة، ونظام ترتيبها الداخلي، وأنواع النصوص التي تحتويها.

4.                       مقارنة محتوى الدفتر بمصادر إسماعيلية معاصرة لتبيّن مدى تفاعل الفكر الطيّبي مع التيارات الفكرية الإسلامية والهندية في القرن التاسع عشر.

5.                       إبراز القيمة الأكاديمية للمخطوطة رقم (1662) -بالخزانة المحمدية الهمدانية- المحفوظة في معهد الدراسات الإسماعيلية بلندن، كمصدر أصيل يمكن توظيفه في دراسات الفكر الفاطمي الحديث.

إن هذا البحث يسعى في جوهره إلى ربط الماضي بالحاضر، عبر قراءة تراثية تحليلية تُعيد الاعتبار للمخطوطات الشخصية كوثائق فكرية تُمكّن الباحثين من فهم آليات إنتاج المعرفة في البيئة الإسماعيلية ما بعد الفاطمية، وتسهم في إثراء الدراسات المقارنة حول الذاكرة العلمية في المجتمعات الإسلامية.

منهجية البحث

اعتمد هذا البحث منهجًا تحليليًا-وصفيًا مقارنًا يجمع بين الدراسة النصّية والفيلولوجية من جهة، والتحليل التاريخي والثقافي من جهة أخرى، وذلك بهدف الوصول إلى قراءة شاملة لمحتوى دفتر ملاحظات سيدي محمد علي الهمداني وفهمه ضمن سياقه الفكري والاجتماعي والديني.

أولًا، المنهج الوصفي التحليلي: تم اعتماد هذا المنهج في التعامل مع نصوص المخطوطة رقم (1662) -بالخزانة المحمدية الهمدانية- المحفوظة في معهد الدراسات الإسماعيلية في لندن، من خلال تحليل مكوناتها المادية (الورق، الخط، الترتيب، الحواشي، الإضافات اللاحقة) ثم الانتقال إلى دراسة محتواها الفكري، عبر تصنيف النصوص الواردة فيها بحسب موضوعاتها (العقيدة، التاريخ، الفلسفة، الآداب، العلوم الطبيعية، والتأملات الروحية).

ثانيًا، المنهج المقارن: تم توظيفه بمقارنة النصوص التي جمعها الهمداني في دفتره مع مثيلاتها في المخطوطات الإسماعيلية والبهريّة المعاصرة له، بغية تحديد أوجه التشابه والاختلاف، وبيان مدى تأثره أو تأثيره في الخطاب الدعوي والعلمي في تلك الفترة. وقد شملت المقارنة مصادر عربية، فارسية، وكجراتية ذات صلة بالفكر الطيّبي والفاطمي.

ثالثًا، المنهج التاريخي الثقافي: استُخدم هذا المنهج لتتبع السياقات التاريخية التي أحاطت بإنتاج الدفتر، وربطه بالتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية في الهند في القرن التاسع عشر، خصوصًا في ولاية كجرات التي كانت مركزًا للنشاط الدعوي والإنتاج العلمي للطائفة الداودية.

رابعًا، المنهج التوثيقي: تم الاعتماد على مجموعة من المراجع الأكاديمية المتخصصة، منها الدراسات الحديثة حول التراث الإسماعيلي والبهري، وأعمال باحثين معاصرين أمثال فرهاد دفتري، حسين فيض الله الهمداني، علي أصغر فيض الله، وفريينا كليم — التي تمثل دراستها محور هذا البحث.

خامسًا، المنهج التحليلي التأويلي: لتفسير الدلالات الفكرية والروحية في محتوى الدفتر، واستكشاف رؤية الهمداني للعلاقة بين العقل والوحي، وبين العلم والدين، في ضوء المفاهيم الفاطمية التي تأثّر بها.

من خلال هذا التعدد المنهجي، يسعى البحث إلى تقديم قراءة متوازنة تجمع بين الدقة النصّية والعمق التحليلي، بما يتيح الكشف عن القيمة الفكرية للمخطوطة، ويفتح آفاقًا جديدة لدراسة التراث الإسماعيلي في مراحله الحديثة.

بنية البحث ومحاوره الأساسية

تتوزع بنية هذا البحث على خمسة فصول رئيسية تسبقها مقدمة وتمهيد وتليها خاتمة تتضمن النتائج والتوصيات، وقد روعي في ترتيبها التدرّج المنطقي من العام إلى الخاص، ومن السياق التاريخي إلى التحليل النصي والفكري، وذلك على النحو الآتي:

الفصل الأول: الإطار العام للدراسة

يُقدّم هذا الفصل التعريف بمشكلة البحث وأهميته وأسئلته، مع تحديد الحدود الزمانية والمكانية لموضوع الدراسة، واستعراض موجز للجهود السابقة التي تناولت التراث البهري والإسماعيلي في الهند، وخاصة ما يتصل بمخطوطات عائلة الهمداني. كما يتناول الفصل العلاقة بين المعرفة والمكتبة في الفكر الإسماعيلي بوصفها أداة لحفظ العلوم واستمرارية الدعوة.

الفصل الثاني: السياق التاريخي والثقافي لدفتر الملاحظات

يركّز هذا الفصل على تحليل الإطار التاريخي والاجتماعي الذي نشأ فيه سيدي محمد علي الهمداني، مع تتبّع التطورات الفكرية والسياسية في المجتمع البهري خلال القرن التاسع عشر، ودراسة دور كجرات كمركز علمي ودعوي. كما يناقش الفصل العوامل التي أسهمت في تكوين شخصية الهمداني العلمية والروحية، وصلاته بالمراكز التعليمية والدعوية في الهند واليمن.

الفصل الثالث: الوصف المادي والفيلولوجي للمخطوطة

يُعنى هذا الفصل بوصف تفصيلي لمخطوطة دفتر الملاحظات رقم (1662)، من حيث مادتها، ونظام ترقيمها، وتسلسل موضوعاتها، وأنواع النصوص التي تضمّها، مع تحليل ملاحظات النسخ والإضافات الجانبية التي دوّنها الهمداني أو أحد أبنائه. كما يُبرز الفصل الخصائص الخطّية واللغوية للنص، وما تعكسه من تطوّر في أدوات التدوين عند العلماء الإسماعيليين.

الفصل الرابع: تحليل محتوى الدفتر واتجاهاته الفكرية

يُركّز هذا الفصل على دراسة البنية الفكرية لمحتوى الدفتر، من خلال تحليل النصوص المقتبسة وتصنيفها موضوعيًا إلى: نصوص دينية، فلسفية، أدبية، علمية، وروحية. كما يناقش الفصل طبيعة الاقتباس لدى الهمداني، ومنهجه في الجمع بين النصوص الإسلامية والعالمية، مع إبراز رؤيته المتّزنة في الربط بين المعرفة العقلية والوحي، وبين المقاصد الأخلاقية والممارسات الدعوية.

الفصل الخامس: أثر الدفتر في الذاكرة الإسماعيلية الحديثة

يتناول هذا الفصل أثر دفتر الهمداني في تشكيل الفكر الإسماعيلي المعاصر، ودوره في ترسيخ الوعي بالمكتبة الفاطمية كرمز للهوية الفكرية والدينية. كما يناقش الفصل تواصل هذا الإرث في أعمال الأحفاد والعلماء اللاحقين، وكيف أسهمت هذه المخطوطة في تطوير منهجية تدوين التراث داخل الأوساط البهرية في الهند واليمن.

الخاتمة

تتضمن أهم النتائج التي توصّل إليها البحث، والتوصيات المتعلقة بضرورة تحقيق ودراسة بقية المخطوطات المنتمية إلى مكتبة الهمداني، بوصفها مكوّنًا حيويًا في فهم تطور الفكر الطيّبي بين القرنين التاسع عشر والعشرين.

الخاتمة والنتائج والتوصيات

يختتم هذا البحث رحلته العلمية بمحاولة تقديم قراءة جديدة في فكر العالم الإسماعيلي سيدي محمد علي الهمداني (1833–1898)، من خلال تحليل دفتر ملاحظاته الشخصي الذي شكّل مرآةً دقيقة لثقافة عصره ومفاتيح فكره الموسوعي. ومن خلال ما تم عرضه ودراسته، يمكن تلخيص أهم النتائج في النقاط الآتية:

1.                       القيمة الوثائقية للمخطوطة: يُعد دفتر الملاحظات مصدرًا فريدًا يوثّق مراحل التفكير الإسماعيلي الطيّبي في القرن التاسع عشر، ويعكس انتقال المعرفة من الطابع الشفهي إلى التدوين الشخصي، مما يجعله وثيقة أولية مهمة لفهم بنية العقل الديني الإسماعيلي في تلك الحقبة.

2.                       الهمداني كمثقف موسوعي: أظهرت الدراسة أنّ سيدي محمد علي الهمداني لم يكن مجرد داعية إسماعيلي تقليدي، بل كان صاحب رؤية شاملة جمعت بين الدين والعلم، وبين التراث الإسلامي الكلاسيكي والمعارف الإنسانية الحديثة.

3.                       التنوّع المعرفي في محتوى الدفتر: تضمّنت المخطوطة نصوصًا مقتبسة من كتب دينية وتاريخية وفلسفية وطبيعية، مما يدلّ على نزعة الهمداني نحو الانفتاح الفكري، وحرصه على ربط الدعوة الطيّبية بمسارٍ علمي وثقافي أوسع.

4.                       الدفتر بوصفه مشروعًا علميًا عائليًا: تبيّن أنّ هذه الملاحظات لم تكن جهدًا فرديًا فحسب، بل استمر العمل عليها بعد وفاة الهمداني، خاصة على يد ابنه فيض الله الهمداني (1877–1969)، ما يؤكد امتداد تقليد التدوين العلمي في أسرة الهمداني ودوره في حفظ تراث الدعوة.

5.                       البعد الروحي والمعرفي: يظهر من خلال النصوص المختارة أنّ الهمداني كان يرى في العلم وسيلة للسمو الروحي، وأنّ الجمع بين العقل والإيمان هو الطريق الأمثل لفهم الدين، في انسجامٍ تام مع روح الفكر الفاطمي الذي يجمع بين الباطن والظاهر.

6.                       إعادة تعريف مفهوم المكتبة الإسماعيلية: قدّم البحث قراءة جديدة للمكتبة ليس كمجموعة كتب فقط، بل كـ"عقل جمعي حيّ" يعكس تفاعل الدعاة والعلماء مع المعرفة، وهو المفهوم الذي تتوارثه الأسر العلمية الإسماعيلية حتى اليوم.

أما على مستوى التوصيات، فيقترح البحث الآتي:

1.                       تحقيق علمي شامل للمخطوطة رقم (1662) المحفوظة في معهد الدراسات الإسماعيلية بلندن، مع فهرسة علمية دقيقة لكل محتوياتها وفق المعايير الحديثة في علم المخطوطات.

2.                       إجراء دراسات مقارنة بين دفتر الهمداني ومخطوطات إسماعيلية أخرى من نفس الحقبة في اليمن والهند، للكشف عن مسارات انتقال النصوص بين مراكز الدعوة المختلفة.

3.                       توسيع نطاق البحث في “الدفاتر الشخصية لعلماء الإسماعيلية، باعتبارها أدوات أساسية في بناء الذاكرة الفكرية وتدوين المعرفة، وهي ما تزال مجالًا خصبًا لم يُستثمر بما يكفي في الدراسات الأكاديمية.

4.                       إدماج البعد الفيلولوجي والمادي في دراسات التراث الإسماعيلي، لتوثيق الخصائص الخطية واللغوية للمخطوطات، وربطها بتاريخ المراكز العلمية الطيبية في كجرات وصنعاء.

5.                       تشجيع التعاون بين المؤسسات الأكاديمية ودور التراث مثل الدار المحمدية الهمدانية للدراسات والأبحاث ومعهد الدراسات الإسماعيلية، لتبادل الخبرات في مجال تحقيق النصوص ونشرها على نحو علمي يليق بمكانتها.

ختامًا، يمكن القول إن هذا البحث لا يكتفي بالكشف عن دفتر ملاحظات الهمداني كمصدرٍ تراثي، بل يسعى إلى استعادة نموذج العالم الموسوعي الذي وحّد بين المعرفة والروح، وأرسى دعائم مشروعٍ علمي استمر أثره إلى يومنا هذا. ومن خلال هذه القراءة، يتجلى الهمداني لا بوصفه شاهدًا على الماضي فحسب، بل رمزًا لجسرٍ ممتدّ بين التراث الإسماعيلي وإمكانات تجديده في الحاضر.

 

ليست هناك تعليقات: