الاثنين، 8 ديسمبر 2025

قراءة نقديّة أكاديمية لدراسة: “ممارسات التدوين والتعليق لدى عالم إسماعيلي في الهند القرن التاسع عشر” /At the High End of Learning: Note-Taking and Commentary Practices of a Nineteenth-Century Ismaili Scholar in India


إعداد:

أ.د عمرو معديكرب الهمداني-رئيس المجلس العلمي 

مقدمة

تُعدّ هذه الدراسة واحدة من أكثر البحوث تقديماً لإضاءة التاريخ الفكري الإسماعيلي من خلال منظور كوديكولوجي وتحليلي جديد. إذ تنظر الباحثة Verena Klemm في دفتر ملاحظات خاص للعالم الإسماعيلي الطيّبي سيدي محمد علي الهمداني (1833–1898م)، وهو مخطوط من نوع personal manuscript يشكّل “مكتبة في مجلد واحد”، ويكشف عن عقلٍ موسوعيّ يمارس القراءة والنسخ والتعليق والتحقيق في آن واحد.

الدراسة لا تعالج محتوى الدفتر فحسب، بل تتناول منهجية العمل العلمي لدى العالم الهمداني، وعلاقته بمصادره، ونظامه الذهني في التعامل مع المعارف، مما يجعلها ذات قيمة عالية لمؤرخي الفكر الإسماعيلي، وكذا لدارسي تاريخ المعرفة في جنوب آسيا.

أولاً: بنية الدراسة وإطارها المفاهيمي

تبدأ الباحثة بتقديم إطار نظري واسع حول مفهوم “الدفاتر الشخصية”، وكيف تُعدّ جزءًا من فئة المخطوطات المفتوحة Open Manuscripts التي تتسم بالخصائص الآتية:

1.                       التراكم التدريجي للمحتوى

2.                       غياب التنظيم الصارم

3.                       تعدد اللغات وأنواع النصوص

4.                       كونها شاهداً مباشراً على ممارسات القراءة والتعلم

هذا الإطار يسمح بفهم الدفتر بوصفه “مرآة لعملية التفكير” وليس مجرد تجميع للنصوص.

ثانياً: السياق التاريخي والاجتماعي للهمداني

تُبرز الباحثة الخلفية التاريخية للعالم الهمداني، المنتمي لأسرة عُرفت بانتقالها من اليمن إلى الهند حاملةً تراثاً إسماعيلياً فاطمياً ضخماً. وقد نشأ في سورت – كجرات في بيئة إسماعيلية مزدهرة، انتعشت فيها الحركة العلمية نتيجة الاستقرار الاقتصادي والحماية البريطانية.

تكشف الدراسة أيضاً عن:

·  صلات الهمداني بمؤسسات الدعوة الطيبية.

·  دوره بوصفه كاتباً، ناسخاً، محققاً، ومؤلفاً لرسائل مؤثرة داخل المجتمع الاسماعيلي

·  تداخله الفكري العميق مع تراث إخوان الصفا، وهو حضور ينعكس في الدفتر بشكل متكرر.

ثالثاً: هيكل الدفتر ومحتوياته المعرفية

تكشف الدراسة عن تعدّد الحقول التي اشتغل عليها الهمداني داخل الدفتر، وأهمها:

1. العلوم الرياضية والفلكية والهندسية

جداول تحويلات، حسابات فلكية، مقارنات بين أنظمة القياس، مصطلحات للكواكب والمنازل.

2. النصوص الدينية الإسماعيلية والفاطمية

خلاصات من رسائل الدعوة، قوائم الأئمة والدعاة، اقتباسات من كتب مثل:

·  عيون الأخبار

·  أساس التأويل

·  رسائل إخوان الصفا

3. التاريخ المقارن

مرويات من التوراة والإنجيل والقرآن، وسلاسل نسب، وتواريخ ملوك اليونان والرومان والفرس.

4. العلوم الغريبة والطب واللغة

تراكيب طبية، نصوص لغوية، أحجبة ومربعات، علوم الفأل والأسرار.

هذا التنوع يكشف عن عقل موسوعي يسعى إلى ترتيب المعرفة وفق شبكات مترابطة لا وفق منهج خطي.

رابعاً: الممارسات التعليقية للهمداني (محور الدراسة الأساس)

تُقسّم الباحثة أنماط التعليقات عند الهمداني إلى فئتين رئيسيتين:

1. تعليقات مرتبطة بسلسلة المخطوطات (Codicological Marginalia)

وتهدف إلى:

·  توثيق مصدر النص.

·  التأكد من صحة النقل.

·  مقارنة نسخ متعددة.

·  تسجيل معلومات عن النساخ أو أصحاب المخطوطات.

مثال شديد الأهمية تذكره الدراسة:

تعليقه على نسخة من كتاب الشجرة لأبي تمام، حيث وثّق أن النسخة نُسخت سنة 509هـ، وأنها كانت ضمن خزانة قاضي اليمن الإسماعيلي يحيى بن لَمَك. هذا الربط يُظهر دقة علمية كبيرة واهتماماً واضحاً بسلسلة تداول المعرفة.

2. تعليقات مرتبطة بالنص ذاته (Textual Marginalia)

وتشمل:

·  الشرح والتفسير.

·  ذكر الروايات البديلة.

·  المقارنة بين مصادر إسماعيلية وفاطمية وسنية ويهودية ومسيحية.

·  الإضافة التفسيرية أو النقدية.

·  الربط الموضوعي بين نصوص متباعدة.

مثال بارز:

عند تدوين تواريخ الأنبياء، أضاف الهمداني في الهوامش اقتباسات من:

·  الزينة لأبي حاتم الرازي

·  أساس التأويل

·  إخوان الصفا

·  كتب التوراة

مما يجعل الهوامش شبكة تفسيرية توسّع المتن وتعطيه بُعداً موسوعياً.

خامساً: دلالة الهوامش في التكوين الفكري للهمداني

ترى الدراسة أن الهوامش تكشف عن:

1. منهج نقدي واعٍ

الهمداني لم يكن ناقلاً، بل فاعلًا معرفياً يحقق، ويقارن، ويضيف، ويقيّم.

2. نزعة كونية وانفتاح معرفي

يتجلى هذا في مقاطع من رسالة الحيوان لإخوان الصفا، التي يورد فيها نقد الحيوانات للإنسان بسبب الظلم والعنف. اختيار الهمداني لهذا النص تحديداً ليجاور مخططاً تاريخياً للبشرية يُظهر حساً أخلاقياً رفيعاً ونزعة إنسانية عميقة.

3. علاقة ذهنية عضوية بين العلوم

الدفتر يكشف عن تصوّر إسماعيلي كلاسيكي ينظر إلى المعرفة كوحدة متداخلة: الفلك والفقه والتاريخ واللغة كلها أجزاء من شبكة معرفة واحدة.

سادساً: تقييم نقدي للدراسة

يمكن اعتبار الدراسة نموذجاً ناضجاً في القراءة الكوديكولوجية ذات المنحى الإبستمولوجي، وذلك للأسباب الآتية:

نقاط القوة

1.                       القدرة على إعادة بناء شخصية العالم الهمداني من خلال مخطوطه، وهذا إنجاز مهم لأن شخصية الهمداني كانت غامضة نسبياً.

2.                       دقة التعامل مع التفاصيل المادية للمخطوط، من الورق إلى التجليد إلى خطوط الكتابة.

3.                       وعي منهجي بمفهوم “التعليق” كأداة لإنتاج المعرفة وليس مجرد هامش.

4.                       ربط السياق المحلي (الهند) بالسياق المركزي (اليمن ـ الفاطميون) بشكل متوازن.

ملاحظات نقدية

1.                       كان يمكن تعميق المقارنة بين دفتر الهمداني ودفاتر إسماعيلية أخرى، خصوصاً دفاتر الدعوة في اليمن.

2.                       الدراسة لا تُفصّل بشكل كافٍ أثر التعليم الاسماعيلي الرسمي على أسلوب التدوين.

3.                       رغم ثرائها السردي، يغيب عنها التحليل الكمي (عدد الهوامش، نسب الأنواع، إلخ) الذي قد يعزز الاستنتاجات.

خاتمة

تُعدّ هذه الدراسة إضافة ممتازة لفهم تطور المعرفة الإسماعيلية في القرن التاسع عشر، لأنها لا تدرس النصوص الكبرى فقط، بل تتبع أثر العالم في لحظة الكتابة نفسها.

الدفتر، كما تصفه الباحثة، ليس مجرد مجلد نسخي، بل “ورشة فكرية” تكشف طبيعة التكوين العقلي الإسماعيلي في الهند: عقلٌ قارئ، ناقد، موسوعي، متصل بتقليد عريق يمتد من اليمن إلى الفاطميين، ومنهم إلى مدارس البهرة.



المصدر الرئيس
: الفصل الثالث من الكتاب Marginal Matters, Verena Klemm, At the High End of Learning: Note-Taking and Commentary Practices of a Nineteenth-Century Ismaili Scholar in India.

 

ليست هناك تعليقات: